متابعين خجلي على تويتر

متابعين خجلي على الفيسبوك

 


العودة   منتديات خجلي > مراحل التعليم - تعليم عالي - تعليم اللغات - البحث العلمي > مقالات اجتماعية - بحوث علمية - تقارير جاهزة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 1 - 12 - 2015, 04:48 PM   #1

صعب المنال
خجلي موهوب
افتراضي مقال عن الصبر



يعتبر الصبر من أوضح المصطلحات والمفاهيم الإسلامية وأجلّها. وقد استخدم في النصوص الإسلامية في العديد من الموارد وطرح بأساليب وطرق تتناسب مع القضايا المختلفة بما تضمنه من أجر وثواب وإشارة إلى أهميته.
وعندما يطرح في الأحاديث، فمن الطبيعي أن يحرك المسلم ويبعث في نفسه الرغبة للتعرف إليه والسعي للاتصاف به.
وللأسف، فقد تعرض هذا المفهوم ـ كغيره من المفاهيم ـ للتحريف الذي ابتليت به أغلب المفاهيم الإسلامية، ويمكن القول بخصوص مفهوم الصبر أنه مسخ وحرف معناه، فانقلب رأساً على عقب.

الفهم الشائع والعامي للصبر

يعرَّف الصبر عادة بأنه تحمل الآلام والمرارات. وهذا التعريف والفهم يمتزج بالإبهام والغموض إلى حد كبير بحيث يسمح لكل من يريد، أن يوجهه إلى معانٍ مختلفة، بل متضادة. فإذا طُرح مفهوم الصبر في مجتمع ـ يعيش الظلم والقهر، ويخضع لأشكال الفساد والانحلال ـ بشكل خاطئ، يتحول إلى عامل مهم يستخدمه الظالمون والمفسدون للاستمرار في السيطرة والقمع، ويصبح عاملاً مساعداً للتخلف والركون وبقاء حالة الفساد والانحطاط. وعندما يطلب من شعب يعاني الفقر والحرمان والتخلف أن عليك الصبر، وهو غائص في مستنقع الضياع والانحراف أو غارق في المظالم التي تتسبب بها زمرة الظالمين عديمو الشرف والإنسانية، فإن أول ما يفهم من هذه الموعظة كإجراء عملي أن عليهم تحمل المرارات والآلام والظروف القاسية المهلكة التي تمارس وتفرض عليهم. وتكون النتيجة أيضاً أن هذا المجتمع ليس أنه لن يتحرك نحو الثورة ضد الأوضاع السيئة للتخلص والنجاة من هذا الظلام والضياع فحسب، بل سيتوهم ويمني نفسه بأنه مأجور ومثاب عند الله على هذا الصبر أيضاً وعليه، ينزوي ولا يبالي بما يحدث ولا يكترث بما يحصل حوله، ويعيش حالة من الرضا والسرور ويظن ذلك فوزاً عظيماً له.
ومن الواضح أنّ شيوع وانتشار مثل هذه الروحية في المجتمع سيعود بنفع كبير على الطبقات الظالمة التي تريد الحفاظ على امتيازاتها. ويبقى الضرر نصيب الطبقات المستضعفة المظلومة.
ومن المؤسف أنّ هذا الفهم الخاطئ المستلزم لهذه الآثار والنتائج في المجتمع، يطغى في عصرنا الحالي على المجتمعات الإسلامية. كما أن طرح أي معنى آخر للصبر ـ وإنْ كان مقبولاً ومنطقياً عند من لم يُسبق بالتعرف إلى هذا الموضع ـ يحتاج إلى الكثير من المقدمات والأدلة لأولئك الذين لم يتعرفوا إلى التعاليم والمعارف الإسلامية بشكل صحيح. وقد يكون البحث معهم في أغلب الأحيان لا طائل وراءه.
وإذا أردنا الاطلاع على الآيات والروايات التي تناولت مفهوم الصبر بشكل جامع وشمولي، فإننا سنتعجّب بعدها من هذا التحريف النبوي الذي قد وصل إلى درجات خطرة.

نظرة عامة على المصادر التي تطرح الصبر

إذا فهمنا معنى الصبر وتبيّن لنا وفق ما طرح ـ بوضوح ومن دون شائبة ـ في الآيات القرآنية والروايات المنقولة عن الأئمة (عليه السلام) سنصل إلى نتيجة تخالف كلياً ما هو رائج وشائع بين الناس. وعندما ننطلق من الرؤية القرآنية والروائية سنشاهد أن الصبر هو ذلك العمود الحديد الذي يقلب أكبر الصخور وأثقلها، ويقوم برفع الموانع والعواتق الكبرى، ويواجه المشكلات ويتجاوزها بكل سهولة محققاً النتائج الإيجابية تماماً.

وحينها سيكون مفتاحاً لكل أبواب السعادة والخير للمجتمع المظلوم والضال. كما كان من الممكن أن يكون مفتاح أبواب الشقاء والتعاسة للمجتمع بأسره. وبفهمه فهماً صحيحاً فإنه سيغدو المانع والرادع والمقلق لكل القوى الشريرة السيئة.
وللتعرف إلى مفهوم الصبر ومضمونه وميادينه التي يكون فيها الحل الوحيد المفيد والنافع، علينا الرجوع إلى القرآن وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) والوقوف عليها والتدقيق فيها. فحينها يمكن إثبات المعنى الصحيح لهذا المفهوم. أما فيما يتعلق بالقرآن الكريم، فقد أتى على ذكر الصبر والصابرين في أكثر من سبعين آية بشكل مباشر وصريح مع مدح هذه الصفة والمتصفين بها، كما ذكرت الآثار والنتائج القريبة لها والمواقع التي تزيد وتكبر الأمل في الذين يتمسكون بها. ولكن، لن أتعرض في هذا البحث المختصر إلى الآيات القرآنية وشرحها، بل سأكتفي بالتدقيق في الروايات واستنباط المعاني والدلالات منها. وانتهاجي هذه الطريقة مردّه إلى أمرين.
الأول: إن الوقوف والتدقيق في الآيات القرآنية التي تناولت مفهوم الصبر يستلزم الدخول في بحث واسع ويحتاج إلى فرصة أوسع.
الثاني: اعتمادنا على الروايات يساهم في رفع النسيان والإهمال الذي تعرضت له أحاديث المعصومين حيث خلت الأبحاث والدراسات الإسلامية الأخيرة منها، ويبيّن كيفية الاستفادة من روايات الشيعة لأولئك الذين لم يطلعوا على الدور الوضّاء والهادي للحديث.

المفهوم الإجمالي للصبر

بناءً على مجموع الروايات التي وصلتنا، يمكننا أن نعرّف الصبر بهذا النحو: هو مقاومة الإنسان المتكامل (السالك طريق الكمال) للدوافع الشريرة المفسدة والمنحطة.
وكمثال على ذلك يمكننا أن نشبّه هذا الأمر بشخص يريد تسلق جبل. فأثناء تسلقه للوصول إلى القمم العليا يوجد موانع مصاعب، قسم منها يتعلق بهذا المتسلَّق وينبع من نفسه، والقسم الآخر يرجع إلى العوامل الخارجية، فيعملان معاً على الحد من حركته.
أما ما يرجع إلى الإنسان نفسه، فهو طلب الراحة والخوف أو اليأس من الوصول إلى الهدف، والأهواء المختلفة التي تعمل على منعه من الاستمرار في التسلّق والصعود، حيث تنخفض حرارة الاندفاع والبواعث بسبب استمرار تلك الأفكار والوساوس. أما فيما يرجع إلى العوامل الخارجية، فهناك الصخور الضخمة والذئاب والأشواك وقطاع الطرق وأمثالها. كل منها يهدد الإنسان ويمنعه من متابعة مسيرة. ومثل هذا الشخص الذي يواجه هذه المتاعب والمصاعب إمّا أن يقرر عدم مواصلة السير بسبب المخاطر والآلام والمشاق، وإما أن يصبح الأمر عنده معاكساً، حيث يزداد عزمه قوة وثباتاً، ويقرر أن يقاوم جميع الموانع الداخلية والخارجية، وبالاعتماد على عامل المثابرة والتحمل، يدفع هذه الموانع من طريقه ويواصل المسيرة.
هذا الثاني هو الذي يعني الصبر.
والإنسان في حقيقة حياته المحدودة في هذا العالم وفي الواقع، قد جُعل في طريق ـ يمتد من بداية حياته الدنيا وحتى وفاته ـ وليسلكه ويطويه نحو الوصول إلى أعلى منزل من منازل الإنسانية. ولأجل تحقق هذا الهدف، ولكي يقترب من هذا المنزل، خلق لأجله كل ما يعينه عليه. وكل هذه الوظائف الملقاة على عاتقه والتكاليف التي كلف بها تعد وسائل القرب والمراحل السير نحو الهدف المنشود. ولم يكن ذلك المجتمع الإسلامي، الذي يعد أول هدف للدين الإلهي والأنبياء العظام إلا لأجل بناء ذلك الإنسان الواصل وصناعته. فهم (صلوات الله عليهم) كانوا يريدون إيجاد المناخ المناسب لتمكين الإنسان من سلوك هذا الطريق بيسر للوصول إلى تلك الغاية.
إنّ هذه الغاية يمكن التعبير عنها بكلمات قليلة، فهي تعني ارتقاء الإنسان وتكامله وتفجّر ينابيع الاستعدادات والقابليات المودعة فيه. وهذا ما يعبّر عنه في ديننا أيضاً بتعبيرات مختلفة من قبيل "التخلّق بالأخلاق الإلهية، والقرب من الله و...".
وبالطبع يوجد في هذا الطريق، الذي هو طريق صعب مليء بالمتاعب، موانع وحواجز كثيرة، على الإنسان أن يقطعها ويجتازها. وإنّ كل مانع منها يكفي لوحده لإيقاف هذا المتسلِّق نحو قمّة الكمال والرقي ومنعه من متابعة سيره.
فمن جانب باطن الإنسان يوجد كل تلك الصفات والخصال السيئة والرذيلة، بالإضافة إلى العوامل الخارجية الدنيوية التي تجلب المتاعب والآلام وتعتبر مجموعة من الأشواك والعقبات في هذا الطريق.
الصبر هنا يعني مواجهة ومقاومة كل هذه الموانع بإرادة صلبة وعزم راسخ يضع كل هذه العقبات جانباً. وكما ذكرنا، فإنّ جميع التكاليف الإسلامية الفردي منها والاجتماعي تُعد وسائل ولوازم هذا الطريق للوصول إلى المقصد الإنساني. وبناءً عليه يكون كل واحد منها بذاته مقصداً وهدفاً قريباً ينبغي تحقيقه للوصول إلى الغاية النهائية. فالذي يريد السفر إلى مدينة بعيدة، فإن الأماكن التي تقع في مسيره، وكذلك إعداد اللوازم ومتطلبات السفر، هي بمثابة الأهداف والمقاصد القريبة التي ينبغي الوصول إليها كمقدمة نحو الهدف النهائي والأساسي. ففي نفس الوقت التي تعتبر تلك المقدمات وسيلة للوصول، هي أيضاً غاية ونتيجة لتحقيق مقدمات أخرى. وما أريد أن أصل إليه من هذا الكلام، هو أن الوصول إلى كل واحد من هذه الأهداف القريبة يتطلب شرطاً أساسياً أيضاً، وهو الصبر الذي يعد كالحربة الحادة القوية التي تمزق كل ما يمنع من الوصول إلى المطلوب. وكما أن على طريق الهدف النهائي يوجد موانع كثيرة، كذلك هناك موانع عديدة (داخلية وخارجية) تقف عائقاً أمام الأهداف القريبة وتشكل العقبة المواجهة لتطبيق كل واحد من التكاليف والوظائف الإسلامية.
ومن جملة العوامل المؤدية إلى الركود والخمود فيما ينبع من نفس الإنسان هناك الكسل وروحية القيام بما هو سهل فقط، وحب النفس والغرور، والحرص وحب الرئاسة والجاه، والتكاثر بالأموال والشهوات وغيرها من الصفات والخصال الخسيسة. ومما ينبع من العوامل الخارجية هناك الأجواء والبيئة المعيقة وغير المناسبة والمشاكل وتبعات بعض الأنظمة الاجتماعية الحاكمة. فكل واحدة من هذه العقبات تؤثر في منع الإنسان من أداء التكاليف الإلهية البناءة، سواء منها التكاليف الفردية كبعض العبادات أو التكاليف الاجتماعية كضرورة السعي لإعلاء كلمة الحق.
إن ما يبطل تأثير العوامل السلبية، ويضمن القيام بكل التكاليف الإلهية واستمرار السير على الطريق الصحيح، هو المقاومة الإنسانية، أو مواجهة الإنسان للموانع المذكورة. هذه المقاومة أو المواجهة هي التي تعني الصبر.

موقع الصبر وأهميته في الروايات

عند الرجوع إلى بعض الأحاديث التي تدور حول الصبر نجدها تحكي وتدل على أهمية الصبر في الإسلام والشرائع الإلهية كافة، حيث يمكننا أن نلخص التعبير عن هذه الأهمية بهذه الجملة وهي أنه كان وصية جميع الأنبياء والأولياء والقادة الحقيقيين لأتباعهم وخلفائهم وكل من يسير على دربهم.
إذا أخذنا بعين الاعتبار حالة الأب الرحيم والمعلم الشفيق الذي أمضى عمره في السعي والجهاد متحملاً لكل الآلام في سبيل تحقيق الهدف الذي يصبو إليه، نرى أنّه في اللحظة التي يودع فيها هذه الحياة الدنيا، وعندما تصبح يده عاجزة عن متابعة العمل والسعي وبذل الجهد للوصول إلى الهدف الذي صرف عمره من أجله، فإنه يعهد إلى وارثه لأجل المضي به وإكمال المسير نحوه ويوصيه بما يمكّنه من بلوغ ذلك المقصد الأسمى.
فما هي هذه الوصية الأخيرة الذي ينطق بها إلى وارثه الذي أوكل إليه أمر هذه المهمة الخطرة؟
إنه لن يقول له إلا ما هو عصارة تجاربه كافة، وسيقدم له ثمرة سعيه العلمي والعملي، ساعياً لتبيين ذلك في جملة تختصر المطلوب، ضمن وصية تختزن بداخلها كل المعارف والإدراكات القيّمة لتتحول إلى هاد ومرشد دائم لذلك التلميذ الوارث، وكأن النقطة النهائية في حياة الأول تصبح نقطة بداية تكامل وارتقاء للتالي.
بعد هذه المقدمة نرى أن آخر وصية للأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين وبناة المجتمع الإلهي السامي وآخر هدية فكرية قدموها لخلفائهم هي الوصية بالصبر.
وننتقل الآن إلى محطة نتوقف فيها عند حديثين مرويين عن أهل البيت (عليهم السلام) في موضع الصبر. الحديث الأول عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): "لمّا حضرت الوفاة أبي علياً بن الحسين ضمّني إلى صدره وقال: "يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ـ وبما ذكر أنّ أباه أوصاه ـ يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً"(1).
وفيما يتعلق براوي الحديث فهو أبو حمزة الثمالي من خواص الأتباع الخلّص لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان من العناصر الأساسية في جبهة الدفاع عن التشيع. لذا ما نقله عن الإمام الباقر (عليه السلام) صحيح معتبر.
لقد خلَفَ الإمام الباقر (عليه السلام) أباه الإمام السجاد (عليه السلام) حاملاً أمانة الحفاظ على ميراثه ومتابعة طريقه ومشروعه. وكان وجوده (عليه السلام) استمراراً لوجود أبيه (عليه السلام) الذي كان بدوره استمراراً لوجود الإمام الحسين بن علي (عليه السلام). فكل واحد من أفراد سلسلة الإمامة كان يمثّل استمرار مشروع السابق له، وكانوا جميعاً استمراراً لوجود النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). لقد كانوا جميعاً نوراً واحداً ونهجاً واحداً يرمون تحقيق هدف واحد.
وإذا عدنا إلى الحديث نجد من عبارة "يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة" أن المشار إليه هو الإمام الحسين (عليه السلام) الذي نعلم جميعاً أين كان وبأية حالة، حين حضرته الوفاة.
ففي تلك الأجواء الشديدة ليوم عاشوراء ووسط بحر الآلام والمصائب وفي هذه الظروف الدموية التي خيمت على كربلاء، والأعداء يحاصرون معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، نجده يستفيد من فرصة صغيرة قبل أن يحمل حملته الأخيرة على معسكر الأعداء، فيرجع من ساحة القتال إلى معسكره ويعقد لقاءاً قصيراً مع أفراد أسرته الذي من المفترض أن يواصلوا ثورته ويتابعوا نهضته، ويتحدث من ولده وخليفته علي بن الحسين (عليه السلام) لمدة قصيرة، لكنّها مهمة جداً ومليئة بالفائدة، وهذا ما يُعبّر الناس عنه بالوداع الأخير. والإمام ـ كما ينبغي أن نعلم ـ معصوم لا يقع تحت تأثير العواطف إلى درجة أن يضيّع هذه الفرصة الأخيرة من حياته بكلام غير مهم مقتصراً في وصيته على المسائل الشخصية أو العاطفية. فهذا لا ينسجم مع الوصايا التي وردتنا من الأئمة العظام (عليه السلام) ولا يشبهها!!
والإمام المعصوم (عليه السلام) يعلم أنّ في هذه الساعات الحساسة الباقية من عمره، ينبغي أن يودع هذه الأمانة التي سعى جاهداً من بداية إمامته لحفظها، متحملاً كلّ الآلام والمصائب العظمى، كما فعل مؤسس الثورة الإسلامية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) من قبله. ولهذا، عليه أن يعهد بهذا الحمل إلى شخص يأتي من بعده ذي قوة متين ثابت القدم ليخلفه. فنراه يأتي إليه ليوصيه بأهم وصية، تساعده على حمل وحفظ هذه الأمانة. ماذا كانت تلك الوصية المهمة والنفيسة؟!
نجد الإمام علياً بن الحسين (عليه السلام) ـ الذي، وإن لم تكن حالة شهادته كشهادة أبيه الحسين (عليه السلام)، إلاّ أنّه كان يعيش في ظروف مشابهة ـ يكشف النقاب عن تلك الوصية التي أوصاه بها أبوه (عليه السلام) ويعيدها على مسامع ولده الإمام الباقر (عليه السلام) كوصية أخيرة له. ويذكر ضمن ذلك أن هذه الوصية قد نقلها أبوه (عليه السلام) عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام). هذه الوصية التي انتقلت عبر السلسلة الطاهرة للإمامة، وكان كلّ إمام يوصي بها الإمام الذي بعده، هي الصبر: "يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً".
إنها تطلب منه أن لا يتردد أثناء سلوك طريق الحق، ولا يعير اهتماماً للموانع والعقبات. وإذا تم تشخيص العمل المطلوب في هذا الطريق فلا يرفع يده عنه، طالبة منه التحمّل والاستمرار.. ومن الواضح في ساحة المواجهة بين الحق والباطل أنّه لا وجود للراحة واللذة والعيش الهنيء، وإنّما المحن والبلاءات والمصاعب "وإن كان مُرّاً". هذه هي الوصية التي انتقلت من إمام إلى آخر. وشاهدنا كيف كان الأئمة (عليهم السلام) يعملون بها ثابتين عليها حتى آخر لحظات حياتهم، متقبّلين لكلّ العواقب التي تحملها إليهم، وكانوا حقاً مصداقاً بارزاً لهذا البيت الشعري الجميل:




سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمرّ من الصبر
وإذ تبيّن لنا من كلّ ما ذكرناه في الحديث الأول، أهمّية الصبر وموقعه في التعاليم الإلهية كجوهر نفيس وميراث غال طبّقه الأئمة (عليه السلام) طوال حياتهم، ننتقل إلى الحديث الثاني المروري عن أهل البيت (عليهم السلام) وقد ورد في كتاب فقه الرضا (عليه السلام) هكذا: "نروي أنّ في وصايا الأنبياء صلوات الله عليهم اصبروا على الحق وإن كان مّراً".
وهنا يبدأ الإمام حديثه بقوله "نروي"، وهذا يدل على أنّه ميراث نُقل لأهل البيت (عليهم السلام)، وهم قد سمعوه من آبائهم وأسلافهم، وهم ينقلونه بدورهم ويوصون به غيرهم. وجملة "أنّ في وصايا الأنبياء" تعني أنّ وصية الأنبياء (عليهم السلام) لورثتهم وأتباعهم وحملة أمانتهم وإلى تلاميذ مدرسة الوحي هو هذا الدرس: "اصبروا على الحق وإن كان مُرّاً". وهي عين الجملة التي نقلها أتباع الأئمة المعصومين (عليهم السلام) دون زيادة أو نقصان. ولعل هذه الجملة هي أقصر ما دل على أهمية الصبر، وفي نفس الوقت لها مغزى ودلالة كبيرة تفوق غيرها.
وبعد هذا الاستعراض لأهمّية الصبر، ننتقل للتعرّف إلى موقع هذه الخصلة النفسية ودورها داخل مجموع المعارف الدينية بحيث إنها استحوذت على هذا القدر من الاهتمام عند أولياء هذا الدين وأئمته.

موقع الصبر داخل التعاليم الإسلامية

قبل الدخول مباشرة في الحديث عن موقع هذا المفهوم، أريد أن أبيّن المقصود من "الموقع" داخل المفاهيم والتعاليم الدينية.
أول شيء هو أنّ الدين يمثل مجموعة المعارف والأحكام الحقوقية والأخلاقية. وهو يقوم على أسس فكرية يعبّر عنها بالرؤية الكونية التي يحملها عن العالم والإنسان. كذلك يتضمّن الأصول العملية التي تنبع من تلك الرؤية، وتبيّن طريقة تعامل الإنسان وسلوكه (الأيديولوجية العملية). ثم يحدّد العلاقات الضرورية للإنسان، أي علاقته بالله وبنفسه وبغيره من البشر، وبالموجودات الأخرى في إطار تلك الأصول العملية، ويتضمّن وفق ذلك، مجموعة من الأوامر والتعاليم الأخلاقية التي تؤدّي إلى التكامل الواقعي على أساس السعي والجدّ، وذلك للنجاح في المجالات المختلفة للحياة الإنسانية المحتاجة في مسيرتها التكاملية إلى مثل هذه الأوامر والتعاليم. ولاشكّ أنّه في مثل هذا المذهب الاجتماعي توجد مسائل فردية (أي ما يرتبط بشكل مباشر بمصالح الفرد الشخصية)، وقضايا اجتماعية ترتبط بالجماعة البشرية وجماعة المسلمين.
وإذا رجعنا إلى نقطة البحث الأساسية، نسأل: ما هو دور الصبر وأثره ضمن هذه المجموعة من المعارف والمقررات التي تشكل الدين؟ وبعبارة أخرى، ما هو دور الصبر في تكوين الإنسان الذي آمن بالدين، بمعنى ما يجب الاعتقاد فيه من أصول وعقائد، والتزام بمقرراته وتعاليمه في العمل، وامتلاك الخصائص الأخلاقية التي دعا إليها هذا الدين؟
في الأشكال الهندسية ـ مثلاً ـ نجد أن للأضلاع والزوايا والانحرافات تأثيراً أساسياً في الشكل والتكوين. فما هو موقع الصبر وتأثيره في الشكل الهندسي للإيمان. وكمثال نقدُمه، إذا أخذنا حافلة نقل الركّاب التي صنعت لهذا الغرض، فهذه الحافلة إنّما تقطع المسافات الطويلة وتوصل الركّاب مع حوائجهم إلى المكان المطلوب بأمان لأنّ فيها وسيلة أساسية وهي المحرك. وهذا المحرك يحصل على قوة الدفع من خلال الوقود. فإذا جئنا إلى الصبر، يمكننا أن نعتبره محركاً لطائرة التكامل التي هي في موضعنا الدين الإلهي، أو الوقود الذي يدفع هذا المحرك.
فلو لم يكن الصبر موجوداً، لم يكن بالإمكان فهم منطق الدين الحق والسامي، ولما حازت معارفه التي تمثّل أرقى المعارف الإنسانية في العالم على موقعها هذا. كما أنّه من دون الصبر، لن يبقى الأمل وانتظار ذلك اليوم الذي ينتصر فيه هذا الدين، ولفقد المؤمنون به الثبات والقوة اللازمة. ولتوقف العمل بالتعاليم الدينية التي لا تريدها الغرائز البشرية الطاغية. وإذا فُقد الصبر يصبح الحديث عن الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الدين كلاماً لا معنى له. وهذا الاجتماع العالمي الذي هو الحج حيث يلتقي الناس من الأماكن البعيدة فإنّه سيتحول إلى مكان ساكن وخال، والحناجر المناجية في ظلمات الليالي ستخمد، وتفقد ساحة جهاد النفس بريقها وتنكمش عروق الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي حيث يبتعد الناس عن الإنفاق في سبيل الله. فلولا وجود الصبر، لكانت كل القيم العملية والأخلاقية للإسلام كالتقوى والأمانة والصدق والورع تودع في عالم النسيان. وخلاصة ما نريد ذكره أنه بدون شيء اسمه الصبر في الثقافة الإسلامية لبقي كل شخص بعيداً عن الإنسانية والدين اللذين يتطلبان السعي والعمل وبذل الجهد، وهي أمور لا تتحقق من دون شرط أساسي، هو الصبر. فالدين هو العمل، والعمل بالصبر. وإنما ينفخ في تلك التعاليم والمقررات الدينية الروح والقوة ويجعل قطارها يتحرّك إنما هو الصبر.
وبالبيان الذي تقدّم، نستطيع أن نفهم مغزى ومفاد هذا الإلهام الإلهي الذي وصلنا عبر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ـ باختلاف يسير في بعض الألفاظ من راوٍ إلى آخر ـ "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"(2). فالرأس له خصوصية بالنسبة للجسد في أنّه أساس وعماد الحياة، ومن دونه لا يبقى أيّ معنى للجسد ـ بينما إذا فقد الجسد أيّ عضو آخر من أعضائه الظاهرية كاليد والرجل و... فإنّه يبقى حياً. لكن الرأس الذي هو مركز القيادة والأوامر للأعصاب إذا فُقد وأُصيب بشلل تُصاب كلّ أعضاء البدن الأخرى بالشلل. ومن الممكن أن تبقى هذه الأعضاء حيّة ولكن لن تقدر على القيام بأيّ عمل أو تأثير. وعندها لن يكون هناك أيّ فارق بين حياتها وموتها. نحن نرى الأهميّة الكبرى للأدوار التي تؤديه الأعضاء كالعين اليد والرجل.. وهذا ما نلمسه بشكل واضح، ولكن كل ذلك إنّما هو بفضل وجود الرأس.. وهكذا الأمر بالنسبة للصبر.
فعندما يُفقد الصبر، لن يبقى التوحيد ثابتاً، وكذلك النبوة وبعثة الأنبياء، فإنها لن تُحقق ما تصبو إليه، ولن تتمكن من تأسيس وبناء المجتمع الإلهي الإسلامي، واستعادة حقوق المستضعفين. بل إنّ الصلاة والصيام وسائر العبادات ستفقد الأساس والقاعدة التي تحتاجها. وعليه نجد أنّ الصبر يهب تلك الاعتقادات والغايات الدينية والإنسانية روح التحقق. ولو لم يثبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية البعثة على القول الحق، ولو لم يقف ثابتاً في مواجهة تلك الموانع والصعاب التي وقفت سداً أمام الإسلام، فمن المعلوم أن الإسلام لم يكن ليتجاوز أربعة جدران، أي بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه. أما شعار "لا إله إلا الله" فكان مصيره الزوال والانحسار.
إن الشيء الذي حفظ الإسلام هو الصبر. ولو لم يصبر أولياء الله وأنبياؤه العظام لم يكن ليصلنا أي شيء عن التوحيد. فالعامل الذي صان النداء الإلهي، وجعل حبل التوحيد متماسكاً وثيقاً، والذي سيحفظه إلى يوم القيامة أيضاً هو صبر حملة رايات هذا الفكر.
فإذا لم تترافق المعتقدات والآمال البشرية مع صبر المعتقدين والمنادين بها، فإنّها لن تتجاوز اللسان، وتزول على أثر تلاطم أمواج حوادث التاريخ. وهكذا يتضح مفهوم "الصَبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد". وقد أشار أمير المؤمنين "عليه السلام" إلى ذلك في خطبته القاصعة في تحليله لثورة المستضعفين وانتصارهم على الطغاة، فيقول:
"حتى إذا رأى الله جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضائق البلاء فرجاً، فأبدلهم العزّ مكان الذلّ، والأمن مكان الخوف. فصاروا ملوكاً حكماً، وأئمة أعلاماً، وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم"(3).
هذه سنّة تاريخية وخالدة إلى الأبد، على هذا النحو. والصبر سيبقى على هذا الأساس سرّ ورمز تحقق المعتقدات الفردية والاجتماعية للدين في أهدافه القريبة والبعيدة.

مواطن الصبر

من خلال تفسير الصبر والذي اختصرناه بهذه الجملة القائلة بأنّه المقاومة لكل العلل والعوامل الموجودة للشر والفساد والانحطاط، يمكننا أن نمدد دائرة الصبر والمواطن التي تتطلب التحلي والتمسك بها. ومن الواضح في القرآن والأحاديث الشريفة أنّ الصابر المتمسك بالصبر قد وُعد بأجر عظيم في الدنيا والآخرة. ومن جهة أخرى لاشكّ بأنّ الذين يقفون مقابل حمَلة نداء الحق والعدل من الأبطال طليعة جيش الإسلام، والذين يلوثون أنفسهم في طاعة أربابهم النفعيين في ساحة هذه المعركة، والذين يحاربون دعوة الحق من أجل تحصيل المال والزاد والجاه، والذين يصدون عن الحق ويعارضونه انطلاقاً من أهوائهم، إنّ كلّ هؤلاء يشتركون مع الصّابرين على طريق الحق باسم ولفظ الصبر. هؤلاء قد يطلق عليهم لفظ الصابرين، ولكنهم بعيدون كلَّ البعد عن معنى الصبر. لأنّ كفاحهم وتحملّهم، لا يصبّ في طريق تكامل الإنسان، بل على العكس من ذلك، إنّهم لا يواجهون الأمور الباعثة على الشر والفساد والانحطاط، بل يقفون مقابل تجلّيات وإشراقات التكامل والسمو الإنساني ـ لذا فهم خارج دائرة مفهوم الصبر بالاصطلاح القرآن والروائي. لأنّ ميدان ومواطن الصبر الواقعي الحقيقي هو ميدان تكامل الإنسان.
فهناك، حيث الهدف الحقيقي لخلق الإنسان، والمقصد النهائي للإنسانية، وصيرورة المخلوق عبداً حقيقياً لله، وظهور الطاقات والاستعدادات الكامنة من خلال التحرّك والسعي، هناك يتجلى معنى الصبر وموطنه، حيث ينبغي المقاومة والثبات مقابل الدوافع والعوامل المانعة من هذا السعي والتحرّك. تلك العوامل الذاتية أو الخارجية التي تعرضنا لذكرها، والتي غالباً ما تترافق في تأثيرها وتكون مصداقاً لمكائد الشيطان. وعندما نريد أن نسلك الجادة الخطرة لأداء التكليف الشرعية، ونتعرّض للمضايقات والموانع المختلفة، كالموانع السلبية والموانع الإيجابية وغير المباشرة، كما في مثال المتسلِّق السابق، فإنَّه أثناء تسلّقه قد تكون مشاهدة المناظر الخلابة أو رفقة صاحب موسوس سبباً في إلقاء الحمل على الأرض، وتبدّل العزم على الصعود إلى الخمود والإخلاد إلى ذلك المكان الجميل. وأحياناً أخرى يكون المرض أو الانشغال بمريض أو تذكر أمور محزنة ومؤملة، باعثاً على فتور العزيمة وعدم مواصلة السير. وهذا الأخير مانع من نوع آخر وهو غير مباشر.
هذه الأنواع الثلاثة من الموانع تقف على طريق تكامل الإنسان. فإذا اعتبرنا أن الواجبات الدينية وسائل هذا المسير، والمحرمات هي حركة انحرافية فيه، وأن الحوادث المرة والمؤلمة في الحياة تؤدّي إلى عدم الاستقرار النفسي وفتور العزيمة، يمكن أن نقسّم الموانع عندئذٍ على هذا النحو:
أ ـ العوالم المانعة التي تؤدّي إلى ترك الواجبات.
ب ـ العوامل التي تدفع نحو فعل المحرمات وارتكاب الذنوب.
ج ـ والعوامل التي تجلب حالة عدم الاستقرار وعدم الثبات الروحي.
أمّا الصبر، فإنّه يعني المقاومة وعدم الاستسلام في مواجهة هذه العوامل الثلاثة، التي لاشكّ بأنّها تقف وراء الفساد والشر والسقوط. وبهذا التوضيح يمكننا أن ندرك عمق هذا الحديث الذي ينقله أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية".
وفي كل مورد من هذه الموارد الثلاثة، عندما تحدث الأمور والحوادث المؤلمة والمرّة في الحياة، وعندما يطلب من الإنسان القيام بتكليف ما، وعندما يدعوه أمر ما إلى ارتكاب معصية ما، فعندها يأتي دور ظهور قوة وبطولة الروح.
ولكي يتضح معنى هذا المصطلح الإسلامي بشكل كامل نأتي على شرح كل واحد من هذه الأمور الثلاثة:

الصبر على أداء التكليف

أمام كل تكليف أو واجب يوجد أنواع مختلفة من المصاعب والموانع. وهذا يعود إلى طبيعة الجهد المطلوب لأداء ذلك الواجب، وإلى روحية طلب الراحة في الإنسان.
فمن الواجبات والتكاليف الفردية الشائعة كالصلاة والصوم وما هو مطلوب كمقدمة لها، إلى الواجبات المالية والإنفاقات والحج والوظائف الاجتماعية المهمة والواجبات التي تتطلب بذل النفس والنفيس وترك زخارف الحياة، كل هذه الواجبات لا تنسجم مع طبع البشر، الذي وإن كان طلباً للرقي والكمال، إلاّ أنّه محب للراحة والسهولة.
وهذا الوضع موجود بالنسبة لجميع قوانين وأنظمة العالم سواء كانت سماوية أم وضعية، صحيحة أم سقيمة.
وفي الأصل، رغم أنّ القانون لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للإنسان، وعلى هذا الأساس يقرّ به، لكنه بشكل عام لا يراه حلواً ولا يستسيغه. وحتى تلك القوانين الوضعية المتعارفة في العالم، والتي لها نتائج جلية وواضحة من الناحية الإيجابية، والكلّ يعلم عواقب مخالفتها ـ كقوانين السير ـ فإنها لا تخرج عن هذه القاعدة التي ذكرناها. ومع أنّ آلاف الحوادث الدامية والمأساوية تقع بسبب التساهل في مخالفة هذه القوانين، وعلى مرأى معظم الناس، لكننا قلما نجد سائقاً لا ينزعج من الوقوف عند الضوء الأحمر أو عندما يجد إشارة تمنعه من اختصار الطريق من خلال المرور في هذا الشارع. مثل هذا الوضع موجود بالنسبة للقوانين الآخرة أيضاً.
فالتكاليف الدينية ـ رغم أنها شُرّعت على أساس الفطرة الأصيلة للإنسان وطبق الحاجات الواقعية له، وهي وسيلة لتكامله ورقيّه ـ عندما تنزل إلى ساحة العمل تُقترن بالصعوبة والمتاعب بغض النظر عن حجمها.
الصلاة ـ مثلاً ـ التي لا تتطلب من الإنسان سوى بضع دقائق، بالإضافة إلى ترك المشاغل الضرورية أو غير الضرورية، وتحصيل المقدّمات الضرورية كاللباس والمكان.. كل هذه الأمور مخالفة للطبع والميول النفسانية. وفي أثناء الصلاة، فإنّ تحصيل حضور القلب والتوجّه إلى أفعالها وأذكارها، وطرد كل الخواطر والواردات وكل ما يشغل عن الله، وإقفال أبواب الروح على الأفكار الطارئة، هي بمثابة شروط لازمة لكمال الصلاة وتحقق آثارها. وهي لهذا عمل مليء بالمشقة يستلزم قوة ورأسمالاً كبيراً.
وإذا جئنا إلى الصوم، نجد أنه يتطلب أيضاً الامتناع عن الأكل والشرب لساعات عدة، مع مجاهدة شهوة الأكل، وعدم الاعتناء بمطالب البطن والفرج، وهذه أعمال صعبة، تحتاج إلى قوة مقاومة وتحمّل.
وعندما تتيبس الشفاه، وتعصر البطن الخالية في يوم صيفي حار، ينبغي امتلاك رأسمال كاف مع إرادة وعزم ـ وهكذا في الحجّ الذي يتضمّن عناء السفر والبعد عن الأهل والديار والالتحاق بمجموعة من الغرباء وصرف مبالغ من المال ـ كل هذه اللوازم ينبغي أن لا تترافق مع نية الرغبة بالسياحة أو التجارة. بل إنّ الهدف يكون "حج بيت الله" فقط. وهذا أمر صعب. وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
ولعلّنا لا نحتاج إلى إيضاح صعوبة ومتاعب هذه الفرائض. فالعقبات التي تقف في طريقها معلومة للجميع. إنّ إعلان كلمة الحق وإيصالها إلى أهل الباطل، والاستعداد لتحمّل كل المرارات والآلام عند مواجهة سلطان البغي الذي يشهر سيفه ويرفع سوطه، والوقوف في وجه الذئاب المفترسة التي يلمع من عيونها بريق السيوف الحادة الذي ينفذ إلى أعماق القلب، إنّ هذه المقاومة ليست بالأمر السهل سواء بالنسبة لأمّة أو فرد، بل هي من أشدّ الأعمال وأخطرها. هذا هو حال الواجبات والتكاليف الإسلامية. فهي ملازمة للمحن والمصاعب والآلام، رغم أنّها بحدّ ذاتها تتضمن المواد اللازمة والأكثر فائدة وضرورة لصلاح البشرية وسعادتها.
ولاشكّ أن الأمر سيكون بالنسبة للذين عرفوا الطريق الصحيح والمستقيم لذيذاً، لأنه في سبيل الله ونحو الهدف المقدس والسامي للإنسانية. فبالنسبة لهؤلاء تتحول كل المرارات والآلام إلى شيء عذب وقابل للتحمّل. فنفس الصلاة التي ذكرنا فيها تلك الشروط، هي لذيذة وحلوة عند أهل الله الذين تذوقوا حلاوتها واستعذبوها. لها نرى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يحين موعد الصلاة يقول لبلال المؤذن: "أرحنا يا بلال". وهكذا في الجهاد في سبيل الله، فهو عند أصحاب القلوب القوية كأمير المؤمنين (عليه السلام)، يبعث فيهم النشاط والحيوية، ويرونه طريقاً للسعادة والثبات. وفي خطبة له (عليه السلام)، في نهج البلاغة يوضح أمير المؤمنين (عليه السلام) ملامح تلك الروحية العالية والمدهشة، فيقول:
"ولقد كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ولا يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم".
بعد هذا العرض، نطرح السؤال التالي وهو: ما الذي يجب فعله لمواجهة هذه المشقات والمصاعب الموجودة عند القيام بالتكاليف الدينية؟ فهل يمكن ترك الصلاة لأنّها صعبة، أو نترك تحصيل حضور القلب ومنع الواردات والخواطر لأنّه أمر صعب! وكذلك في سائر التكاليف من جهاد وحجّ وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وغيرها من التكاليف الاجتماعية التي تتلازم مع التعب والمشقة، فهل يصح أن نقف مكتوفي الأيدي أمام القلب للأهواء وطلب الراحة والسهولة؟
هنا يأتي جواب الإسلام قائلاً لا يصح ذلك بل يجب الصبر، الصبر على الطاعة. ويجب علينا أن نواجه تلك الوساوس التي تظهر أثناء الصلاة وتريد أن تخرج القلب عن حالة الحضور وتنسيه أنّه قائم في محراب العبادة، وعلينا أنّ نصبر على ذلك حتى نوصل الصلاة إلى كمالها وتُحقِّق ثمرتها.
وفي مقابل الأهواء الكثيرة والقوية التي تدفع الإنسان للإفطار أثناء صيام يوم طويل وحار من شهر رمضان، علينا بالصبر والمواجهة. وعندما ندخل إلى ساحة المواجهة مع العدو الذي يكشر عن أنياب العداء يريد أن يجرعنا كأس الموت الأحمر يجب أن نسارع، ونبتعد عن كلّ ما يذكرنا بلذات الدنيا وحلاوة الحياة والأبناء والأعزاء والمشاغل المادية والمصالح الخاصّة، وكلّ ما من شأنه إحداث التزلزل وضعف الإرادة. يجب علينا أن نبعد كل هذه العوامل المانعة للاستمرار والتقدم نحو تحقيق الانتصار.
عندما نقول يجب الصبر، يعني أن لا نسمح بتسلل الخوف إلى قلوبنا من جراء تهديد ورعيد الظالم الذي يؤدي إفساده وطغيانه إلى فساد الأمّة وانحطاطها، بل علينا أن نلقي من على سطح الصبر العالي سطل فضائحه وذلته.
عندما نقول يجب الصبر، أي يجب مواجهة إغواء الشيطان الذي يظهر بألف لون ولون لمنعنا من الإنفاق والعطاء، من خلال تذكيرنا بحاجاتنا الخاصة وإشغالنا بمصالحنا وحب التكاثر وجمع الأموال، وبالتالي لمنعنا من القيام لأداء وظائفنا المالية (كالخمس والزكاة والصدقة..)، وجعل إضاءة بيوتنا أولى من إشعال شمعة في المسجد.
علينا أن نقاوم، وأن تكون مقاومتنا بكل ما ينبغي علينا القيام به. ففي ساحة القتال يجب الصمود والثبات، وفي ميدان جهاد النفس ينبغي الاستقامة، وفي محل آخر يجب عدم الاعتناء بالفقر ووساوسه. هذه المقاومة هي الصبر. فالصبر ليس الاستسلام وتكبيل الأيدي وأسرها بالأحداث اليومية والغفلة عما يجري.

الصبر على الطاعة في حياة الأئمة (عليه السلام)

في الزيارات التي يزار بها الأئمة (عليه السلام) نجد أنّ من جملة الخصال الواردة التي يتم التركيز عليها هي الصبر "صبرتَ، احتسبت.."، نتوجه إلى الإمام قائلين إنك قد صبرت واحتسبت عند الله، ونهضت في سبيل الله، وحملت الأمانة مع وجود كل تلك المشقات والمصاعب وأدّيتها.. حقاً، لقد كانت مسؤولية هداية الناس وبيان الحقائق المكتوبة ومواجهة الطغاة ومحاربة الظلم والفساد مسؤولية مليئة بالمصاعب والآلام التي تحتاج إلى صبر ومقاومة.
وباليقين، لو كان صبر الإمام بأن يبقى حزيناً ومغموماً لما يرى من الأوضاع السيئة في زمانه، ويحترق قلبه لما يجري على الإسلام والمسلمين، وهو جليس البيت مع تجرع الآلام والغصّات، دون أن يتحرك لأجل القضاء على الفساد وتغيير الأوضاع القائمة وإصلاح المجتمع والنهوض به، لم يكن ليعد ذلك من جملة فضائله ومفاخره. لأنّ هذه الأمور يمكن أن تكون في أي شخص، وخصوصاً في الأفراد الضعفاء واللامسؤولين.
إن هذه الفضيلة إلى وردت في الزيارات. وهي خصلة بارزة في حياة الإمام (عليه السلام) والتي ينبغي أن تكون بالنسبة لنا درساً ملهماً، بحيث نكرره دائماً، هي الصبر على وظيفةٍ عَجِز الناس عن حملها وأدائها، هي الصبر على الطاعة وأداء التكليف.



نظرة إلى القرآن

إذا نظرنا إلى عشرات الآيات التي تتحدّث عن الصبر والصابرين، نجد أنّ الصبر على الطاعة يأتي ضمن أقسام الصبر. فقوله تعالى مثلاً: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً بإذن الله}. في هذه الآية يرينا الله أن الصبر ليس هو إلا المقاومة والثبات في مواجهة العوامل الصعبة والشاقة التي تعترض المجاهد في ساحة الحرب والقتال لثنيه عن الاستمرار.
وهذا المعنى في الآية شديد الوضوح. أما والصّابرون الذين أشير إليهم في هذه الآية فهم الذين لا تمنعهم بوارق السيوف وتهديدات الأعداء من القيام بتكاليفهم، كما لا يمنعهم ذكر الأبناء والأحبة والحياة الهانئة والمريحة من الجهاد والقتال، ولا تتزلزل أقدامهم في هذه الطاعة. ونأتي إلى آية أخرى حيث يقول تعالى:
{ربَنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.
فذكر فيها تلك الفئة المؤمنة التي تتجه نحو ميدان القتال للقيام بواجبها، وقد أعدّت نفسها وتجهزت لمواجهة ذلك العدو القوي، طالبة من الله تعالى أن يهبها روح الثبات والمقاومة لمواجهة الموانع التي تقف حائلاً أمام الاستمرار، والوصول إلى الثمرة التي هي الانتصار. وهناك آيات عديدة في مجال الصبر على الطاعة يتطلب بحثها تفصيلاً ومجالاً أوسع.

الصبر عن المعصية

في كل إنسان يوجد ميول طبيعية ورغبات تدفعه للقيام بأعمال والامتناع عن أخرى.
وهي في الحقيقة سبب للاندفاع وبذل الجهاد في مراحل الحياة الإنسان كافة. وتسمى هذه الميول بالغريزية، التي من مصاديقها وأمثلتها محبة الأبناء وحب المال وطلب القدرة والميول الجنسية وعشرات الميول الأخرى. ولنرى الآن كيف حكم الإسلام على هذه الغرائز الإنسانية؟ وكيف حدد الأطر المناسبة لمواجهتها والتعامل معها؟ فهل يجب القضاء عليها وكبحها من خلال الرياضات الشاقة وبشكل كلي وتام؟! أم أنه لا يوجد أي تقييد، ولا يجب مراعاة أي شرط فيها، بل على الإنسان أن يستسلم لها لتأخذه حيث تريد؟!
في الجواب، نقول إن الإسلام لا يعتبر كلا الأسلوبين علاجاً سليماً وصحيحاً. فهو لا يغض النظر عن وجود هذه الغرائز البشرية، بل يعتبر أنها أمر واقعي لا ينبغي تجاهله، ويعتبرها مفيدة. لكنه من جهة أخرى يسد باب طغيانها وتعديها وانحرافها، وذلك من خلال سلسلة من الإجراءات الفعّالة ووضع حدود واقعية لها.
وفي الواقع، نجد أن أصل وجود الغرائز في الإنسان إنما كان وسيلة لاستمرار الحياة، والقيام بمتطلباتها الأساسية، كما أن طغيانها في المقابل وانحرافها يؤدي إلى القضاء على هذه الحياة ورقيّها. فإذا جئنا إلى غريزة حب النفس، نرى أنها لو لم تكن موجودة لما استمرت الحياة على الأرض (فبسببها يدافع الإنسان عن نفسه ويدفع عنها المخاطر والمهالك), ولكن طغيان هذه الغريزة وخروجها عن الحد المطلوب يؤدي إلى جعل هذه الحياة سلسلة من المتاعب والمصائب، حتى إن الأمر قد يصل أحياناً إلى استحالة العيش. وعلى هذا قِسْ جميع الغرائز الأخرى.. هنا يأتي دور الصبر عن المعصية، والذي هو أحد الأنواع الثلاثة للصبر. وهو مقاومة نيران وطغيان هذه الغرائز وانحرافاتها. ذلك لأن أساس المعاصي والذنوب هو هذا الطغيان والانحراف.
والإنسان يميل بشكل طبيعي نحو تأمين وسائل الحياة وحاجاتها الأساسية. ولأنها لا تتيسر عادة بدون المال والثروة، نراه يسعى إلى تحصيلها. وهذه إحدى مظاهر الغريزة الإنسانية. والإسلام الذي يمثل المدرسة الإنسانية، والطريق الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان في الحياة، أقر هذه الحاجة. ولكن، لكي يتحقق النظام في المجتمع بشكل صحيح وضع مجموعة من المقررات والقوانين لتحصيل هذا الأمر الغريزي (تحصيل المال)، فهو لا يمنع مطلقاً من السعي وبذل الجهد لتأمين لحاجات العيش. مع ذلك، هناك موارد عديدة تخرج فيها هذه الغريزة عن حد الاعتدال، فيصبح جمع المال واكتنازه كمرض مزمن يتجذّر في نفس الإنسان، ويصير المال عندها هدفاً عزيزاً بدلاً من كونه وسيلة لتأمين الحاجات الأساسية، ويتحول إلى وسيلة لتحقيق المآرب اللاإنسانية وسبباً للتفاخر.
وكل هذا ممنوع ومرفوض في الرؤية الإسلامية. وهنا، يتدخل الإسلام ليقدم لأتباعه دستور الصبر، أي يأمرهم بالوقوف في وجه هذا الطغيان ومقاومة هذا الانحراف في الغريزة. فعند جموح غريزة حب المال على سبيل المثال، يتجه الإنسان إلى تعاطي الربا والاحتكار، وينجر نحو القيام بمعاملات أو تصرفات غير لائقة بحقه. والصبر هنا يعني مقاومة العوامل المؤدية إلى هذا الفساد وغيره. وإذا جئنا الآن إلى الميل الطبيعي في الإنسان نحو القدرة، نرى أنه لو فقد هذا الميل فإنه سيقبل بالذل والهوان والحقارة، ونحن على يقين بأن مثل هذا الإنسان منحرف الفطرة ومعوَّج في طبيعته. لهذا، جاء الإسلام ـ بالنسبة لهذه الموارد ـ بأسلوب يمكن استعماله والاعتماد عليه لأجل توجيه هذه الفطرة توجيهاً صائباً. ففي مثل هذا المثال المتعلق بالقدرة، يجوز أن يسعى الإنسان لامتلاكها. وفي بعض الأحيان يصبح هذا السعي أمراً واجباً وضرورياً كما في مثل إحقاق الحق وأداء التكاليف الاجتماعية المهمة واستعادة الحقوق المسلوبة، أو عند إجراء الأحكام والحدود الإلهية. في بعض الأحيان يصبح هذا السعي فريضة واجبة على الجميع.
ومن جهة أخرى، سد الإسلام طريق جموح هذه الغريزة، عندما تتحول إلى وسيلة لظلم الآخرين والتسلط عليهم لاقتراف الجنايات، في مثل أجهزة الظلمة والطغيان ومعونتهم. هذا السد والوقوف أمام هذا الميول الجامحة هو الصبر عن المعصية.
وهناك أمثلة أخرى على الغريزة الجنسية وغريزة التعلق بالحياة، وغيرها مما يعد البحث حوله طريقاً للإطلاع على الكثير من المسائل الفردية والاجتماعية المهمة.

أهمية الصبر عن المعصية

من خلال هذا الإيضاح الموجز، وبالاستلهام من الروايات والتعاليم الإسلامية التي تزخر بالمعارف الاجتماعية يمكننا أن نستكشف الأهمية التي يحظى بها الصبر عن المعصية وطغيان الغرائز. ففي عدة روايات قصيرة وردت كل واحدة منها في وضع خاص بصورة درس بنّاء للمسلمين المجاهدين في عصور الأئمة (عليهم السلام)، تمّ التأكيد كثيراً على هذا النوع من الصبر، لعله بسبب أن طي طريق النوع الأول من الصبر (الصبر على الطاعة) متلازم مع الشوق والرغبة الطبيعية في الإنسان، ذلك الشوق للسعي والتحرك. في حين أن عدم الانحراف وعدم الانصياع للموانع التي تنسجم مع الغرائز الطبيعية والميول الداخلية (أي النوع الثاني من الصبر وهو الصبر عن المعصية)، ليس فاقداً للرغبة والغريزة الطبيعية فحسب، بل يقف في مقابل هذه الرغبات والميول.
فالصبر من النوع الأول، وإن كان من جهة عبارة عن مقاومة لنوع من الميول الطبيعية كحب الراحة وطلب السهولة و.. لكنه من جهة أخرى يترافق دائماً مع نوع آخر من الميول التي تساعده على الصبر، وإن كانت ضعيفة لكنّها طبيعية.
أما النوع الثاني من الصبر فهو متعارض من جميع الجهات مع الميول والرغبات الطبيعية النفسانية. ولهذا تكون المقاومة فيه أصعب، ومن هذه الجهة له الأفضلية. كما أننا نرى أنّ الدور المصيري للصبر عن المعصية كان الأبرز في تأثيره على الأحداث الاجتماعية، ويمكن أن يكون هذا الأمر دليلاً إضافياً لترجيح هذا النوع من الصبر على النوع الأول.

نموذج من التاريخ

وإذا أخذنا نموذجاً مما ذكرناه، نقف عند وجهين معروفين في تاريخ الإسلام لنقارن بينهما. الأول هو الوجه الساطع والجميل، والثاني هو الذي يبعث على النفور والاشمئزاز. كلاهما مرّا في ظروف متشابهة تماماً. ويكن القول بأنهما وصلا معاً إلى نفس مفترق الطريق بعد أن كانا يسيران معاً على خط واحد، فاختار الأول طريقاً غير الآخر، وصار بسبب هذا الاختيار في عداد أعظم وأعز الوجوه الإسلامية، أما الثاني فقد دخل باختياره في زمرة المتوحشين الملعونين في التاريخ.
وهذان الشخصان هما الحر بن يزيد الرياحي الذي كان قائداً لقسم من الجيش الأموي والذي توجه للوقوف بوجه ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، والثاني هو عمر بن سعد الذي قاد الجيش الأموي للقضاء على الإمام (عليه السلام). كان الحر في طليعة الذين اعترضوا حركة الثورة الحسينية المتجهة نحو العراق، وكان مع عمر بن سعد على نفس الخط والتوجه، وهدَّدا معاً الثورة بقوة حاكم زمانهما.
كان الإمام الحسين (عليه السلام) قد نهض انطلاقاً من تكليفه الإلهي والتعاليم الإسلامية وشعوراً منه بالمسؤولية الكبرى ـ لتلقين وإظهار درس عملي أساسي في الإسلام ـ من خلال العمل الثوري ضد الحكومة الأموية والنظام الفاسد المنحط المتسلط على المجتمع. ولأن هذا التحرك كان يمثل تهديداً مباشراً للنظام الحاكم، وضعت الحكومة كل قواها وإمكانياتها لمواجهة هذه الثورة. وكان هذان الرجلان (عمر بن سعد والحر بن يزيد) في عداد هذه القوى التي توجهت نحو إخماد هذه الثورة والقضاء على باعثها الإمام الحسين بن علي (عليه السلام). فكانا بذلك حجرين أساسيين على رقعة اللاعب الواقعي؛ الخصم للثورة، وهو الخليفة الغاصب يزيد بن معاوية. وكان يزيد يحركهما كيفما يشاء لتحقق ما يريد. ولكنهما أيضاً كانا قد انساقا وراء تحقيق رغباتهما وإشباع غرائزها الحيوانية.
لذا نراهما قد أقدما على ما أُمرا به من قبل الخليفة الغاصب. وكان عمر بن سعد قد توجه إلى كربلاء لقتال الإمام مندفعاً بجنون حب السلطة وتحصيلها. بما أنه لم يكن مؤمناً واقعياً وعارفاً بالدين، فقد كانت ولاية "الري" عنده أهم وأعز بكثير من يزيد وتنفيذ أوامره. وكان الحر بن يزيد أيضاً منساقاً وراء شيء من هذا القبيل حين توجه إلى كربلاء. وكل واحد منهما كان يعلم أن ما يفعله هو ذنب ومعصية كبرى، إلا أنّ الميول البشرية وطغيان غريزة حب الجاه والسلطة وعبادة الأنا لم تدع لهما مجالاً للتفكير بقبح العمل المقبلان عليه، وكانا يسيران على طريق، نهايته أن يصبحا أحقر متوحشي البشرية وأرذل المجرمين.
لقد كانا على مفترق طريقين: الأول هو هذا الانسياق للميول النفسانية التي برزت بصورة غريزة حب الجاه والسلطة، والثاني هو القيام بالواجب الإسلامي عبر الالتحاق بالثورة المنادية للحق بقيادة الإمام الحسين (عليه السلام). إن الأمر الذي كان يمكن أن ينجيهما في هذه اللحظات الحساسة هو الصبر. الصبر في مواجهة الميول والرغبات المهلكة لنفس الإنسان، ومقاومة القوة البطاشة (جيش يزيد)، أي الصبر عن المعصية والذنب.
لم يستطع عمر بن سعد أن يصبر في هذا المنعطف المصيري، ولم يتمكن من مقاومة هذه الدوافع نحو الشر والفساد. فطوّق عنقه بحبل حب المقام والمنصب الذي ساقه إلى جهنم.. لم يستطع السيطرة على ضعفه وعجزه رغم أنّه كان يبدو في الظاهر قوياً ومقتدراً، ولم ينفعه أي شيء من ذلك في عدم السقوط إلى الهاوية.
وإذا جئنا إلى الحرّ بن يزيد نراه قد بلغ نفس ذلك المنعطف الذي وصل إليه عمر بن سعد. فلو أنه في حينها سار خلف ميوله واستسلم لها، وأنجز الأوامر التي صدرت إليه من الحاكم، ولم ينصت إلى نداء عقله الموقظ، وصدّق خدع نفسه بأنه عبد مأمور معذور، لاشك أنه لو فعل ذلك لكان الطريق مفتوحاً أمامه لنيل الرئاسة والمنصب. صحيح أنه لم يكن موعوداً بولاية الري، لكنه كان من المسلّم أن يعطى ولاية أخرى. وكان حبل الحرص والأهواء الفاسدة يطوق عنقه بحكم أنه بشر، ويريد أن يسوقه أيضاً إلى الجحيم..
وهناك وقف بين المعسكرين؛ الأول ينال به الجنة نقداً، حيث يفور نبع أصالة الإسلامية وتتجلى عظمة روح الإنسان. والثاني يدخل به جهنم سراعاً، في العسكر اليزدي حيث مظهر الانحطاط والذل، وساحة الكذب والخداع، وقلعة الجاهلية التي تتحكم بالمجتمع باسم الإسلام.
هذان هما المعسكران اللذان وقفا وجهاً لوجه. وصحيح أن ميول الانحطاط هي التي جاءت به إلى هذا المكان، ولكن فجأة ظهرت قوة بطولية قاهرة ويقظة سارعت إلى نجدته، وعند لحظة سقوطه استطاعت أن تقطع ذلك الحبل الذي طوّق عنقه، ونجى من خلال مقاومة تلك الدوافع والرغبات بالصبر قافزاً من دائرة الجحيم إلى فلك الجنة!
في هذه الأحداث المليئة بنماذج الصبر، يتبين بكل وضوح للمتعمقين في دراسة التاريخ الدور المهم جداً لهذا النوع من الصبر ـ وهو الصبر عن المعصية ـ في تشكُّل الجبهات العظيمة للحق والباطل والتي بدورها تمثّل التفسير الواقعي والنهائي لتاريخ البشرية.

نماذج أخرى

للإطلاع والبحث في نماذج هذا النوع من الصبر، ينبغي أن نستحضر في أذهاننا أشكالاً مختلفة من الانحرافات والذنوب الكبيرة، لنشاهد في كل واحدة منها الدور المهم للصبر.
قبضة يد تريد أن تنهال على رأس مظلوم دون مانع أو رادع، فهنا أحد موارد الصبر.
فدوافع الغضب، الحمية، التكبر، وأذية الآخرين، كل هذه لها جاذبة خاصة وقوية تجعل هذه اليد تتجه لضرب هذا البريء. فالصبر هنا معناه مقاومة هذه الجاذبة، وعدم الانجرار وراءها لأذية الآخرين.
والميل لجمع الثروة يمثل عاملاً وباعثاً للانحراف يقود صاحبه إلى ارتكاب الجنايات والمعاصي. والصبر في مورده يعني مقاومة هذا الميل وغض النظر عن الأرباح والمنافع التي تجر نحو ارتكاب المعصية.
كذلك الميول الجنسية، فإنها من أقوى الميول بحيث إنها تهزم الأقوياء والأبطال وتجذبهم إليها. وبسبب هذه الجاذبة الساحرة، كانت هذه الميول وسيلة مناسبة جداً استخدمها أعداء البشرية لأجل إفساد أصحاب النفوس المقاومة وجرّهم نحو الانحطاط والتسافل. والصبر هنا يعني مقاومة هذه الميول والرغبات التي تجر نحو المعصية.
وإذا جئنا إلى الخوف، فهو غريزة أساسية في الإنسان. ولكنّه في بعض الموارد مثل حادثة كربلاء، يصبح عاملاً سلبياً يجرّ صاحبه نحو الذلّ والهوان وارتكاب الجرائم العظمى. وما أكثر الضعفاء الذين استسلموا خوفاً على النفس والأموال والمناصب والأبناء، واقترفوا بسبب ذلك أبشع الجنايات، وأسقطوا حيثيتهم الإنسانية الشريفة إلى درجة صاروا فيه آلات تتحرّك من دون إرادة ووعي. فمقاومة مثل هذا النوع من الميول الشريرة المفسدة هي شكل آخر من أشكال الصبر.

نظرة إلى الروايات

بعد أن وضعنا أسس فهم معاني الصبر عن المعصية، يمكننا أن ننتقل إلى الروايات التي وردت عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في هذا الشأن لنأخذ منها الدروس والعبر. فعن الأصبغ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "الصبر صبران، صبر عند المصيبة حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عما حرّم الله عليك".(4)
(وفيما يتعلق بالصبر عند المصيبة سنبيّن تقسيماً آخر في مورده).
الرواية الثانية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغني إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّق بي".(5)
وهذه الرواية التي ينقلها الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله تتحدث عن مستقبل الأمة الإسلامية بقوله "سيأتي زمان". وسرعان ما أتى ذلك الزمان الدموي الذي تسلط فيه معاوية وابنه على الأمة الإسلامية بالقتل وسفك الدماء وإعمال القوة والتجبر. فأصبح تحصيل الثروة من خلال غصب حقوق المظلومين والاعتداء على الطبقات الضعيفة واستغلال عامة الناس والإمساك عن أداء الحقوق المالية وعدم الاعتناء بحاجات المحرومين. وصار المنحى الطبيعي للمجتمع الإسلامي أن لا توزع الثروة على الجميع، وبدون الظلم لا يتم تأمين المال والثروة. وعليه فإن بناء الثروة صار على أساس حرمان الغير وظلمهم. ولقد تحقق هذا الأمر كما شاهدنا.
أما تحصيل المحبة، فلم يعد الحصول عليها ممكناً إلا بإخراج روح التدين من الحياة، واتباع الهوى النفساني، أي من خلال التملق والكذب والنفاق والخداع، وإخفاء العيوب التي ينبغي الإعلان عنها بصوت عال، وقلب الحقائق، ونسيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و... فبهذه الطرق كان السلاطين والقادة الفاسدون يجلبون قلوب الناس.
ولو كان الإنسان ملتزماً بمسؤولياته الإسلامية، فإنّه لن يُجري على لسانه الكذب والتملّق، وسيعلن بوضوح عن الانحراف والاعوجاج الموجودة في المجتمع أو داخل طبقة المقتدرين وأصحاب السلطة، ويبيّن الحقائق، ولن يخدع عامة الناس بوعود كاذبة وفارغة، ولن ينسجم مع الأوضاع السيئة، وسوف يوضح بكلماته المرّة التي هي دواء لسخط الناس، وخنجر حادّ في خاصرة المتسلطين، كل المساوئ والانحرافات. ومثل هذا الشخص في المجتمع الذي تحدث عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيسقط من العيون ويحرم من العاطفة والتأييد.
هذه الجملة المليئة بالمغزى تشير إلى تدنّي وانحطاط مستوى فكر ووعي الناس وسقوط القيم الإسلامية في معيار المجتمع المنحط، وانقلاب الأحكام والموازين العامة ونشوء التيارات المنحرفة في حياة الناس. ومن الواضح جداً أنّ ظهور وبروز مثل هذه الأوضاع في شعب كان نمط وشكل حياته في البداية على أساس القيم الأصيلة، وفي شعب كان قطار مسيرته على سكة الفكر والمنهج الإسلامي، لم يكن إلا على أيدي الظلمة والمستبدين ومن خلال مخططاتهم المعدّة بدقة.
وعلى أساس هذه الجملة يمكن التعرّف إلى الأحداث السياسية المؤلفة والمأساوية في تاريخ الإسلام.
وفي صورة أخرى نجد أنّ الناس عندما كانوا يجلسون في محضر أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكونوا يرون في وجه هذا الإمام العظيم وسلوكه إلا الحديث عن خطورة الذنوب والانحراف، وضرب الجاني والمنحرف بسوط الغضب والانتقام الإلهي. وهذا أخوه عقيل، عندما طلب منه بعض المال (مما لا يستحقه) رأى في يده (عليه السلام) حديدة محمّاة، وسمع منه كلام التأنيب والملامة.
بينما في الجانب المقابل، نرى نفس عقيل أو أشخاصاً غيره عندما كانوا يأتون معاوية طلباً للمال، يقابلون ببشاشة الوجه والأكياس المليئة بالمال والذهب دون حساب أو كتاب.
فمن الطبيعي عندئذٍ أن يفضِّل هؤلاء الناس ـ الذين لا ينساقون بالمنطق والفكر الإسلامي الصحيح ـ محبة معاوية عن محبة علي (عليه السلام)، ويقبلوا به ويؤيّدوه. ولا ينبغي أن نتصور أن معاوية لم يكن محبوباً من قبل أبناء زمانه من سكان الكوفة والمدينة، فحتى أولئك الذين عاشوا في كنف أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتعرفوا على تعاليم الإسلام الأصيلة، بالإضافة إلى المنتشرين في أرجاء البلاد الإسلامية، ورغم القمع الفكري الذي فرضه التيار الأموي والإعلام الذي بثه معاوية، كانوا يعتبرون معاوية شخصاً محترماً ولائقاً، ويلقبونه "خال المؤمنين"، وقد ساعده على ذلك طبيعته المخادعة ودهاؤه.
لهذا كان هناك الكثير من الناس ممن يرونه شخصية قوية ومحبوبة. وقد سلك معاوية مع رؤساء القبائل ووجهائها مسلكاً مكّنه من إخضاع عقول الناس وقلوبهم له، وذلك بإغرائهم الدائم بالمناصب وبذل العطاءات والأموال بسخاء لهم مع تسليطهم الكامل على الأبرياء الذين لا ملجأ لهم.. وكان لكل هذه الطرق أثر كبير في إيصال وضع الأمة الإسلامية إلى الحالة المذكورة. ونجد أيضاً أن الذين استفادوا من هذا الوضع، ولكي يردوا الجميل لولي نعمتهم، ولكي يحافظوا على امتيازاتهم، يطلقون ألسنتهم بالمدح والثناء على معاوية، ويقلبون في أعين الناس عيوبه إلى حسنات.
فكيف سنشاهد في منظار عصر الرسالة مستقبل العالم الإسلامي؟!
وفي مقابل هذا الوضع والنظام الفاسد الذي سيحصل، ماذا يكون تكليف الناس؟
إذا رجعنا إلى الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) سنجد الجواب على هذا السؤال. إنه نفس الجواب الوارد في معنى الصبر "فمن أدرك ذلك الزمان.." أي واجه وضعاً مثل الذي ذكر في الرواية، سواء كان في العهد القريب من عصر الرسالة أو البعيد منه. "فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى"، أي قاوم جموح شهوة جمع المال وتحصيل الرفاهية في الحالة التي يستطيع فيها أن يكون مثل غيره من الناس الذي يقفون موقف المتفرِّج على مثل تلك الأحداث الوقائع في زمانهم، ويمشون وفق النهج السائد الموصل إلى الثروة ـ أي بقبول الذلّ والهوان واقتراف الجنايات وتكبيل الفضائل بالسلاسل والأغلال وعدم المبالاة بالعقيدة الصحيحة ـ ويكون ذلك على حساب بقاء آلاف الناس في الفقر وهو يتمتع بلذيذ الأطعمة مع وجود جموع غفيرة من الجائعين الذين لا يجدون لقمة يسدون بها رمقهم، فمع كل ذلك: "صبر على الفقر وهو يقدر على الغنى"، أي صرف بصره عن كل تلك الأشياء. و"صبر على البغضة وهو يقدر على المحبة" أي صبر على أن يكون منبوذاً أو سيّء الذكر لأجل مقاومة شهوة الجاه والشهرة والتأييد، مع قدرته على جلب أنظار جموع الجهلة والمسؤولين الفاسدين بالإطراء عليهم والتملق لهم وخداع عوام الناس والسكوت عن الحق وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلم يفعل ذلك، وهو يعلم أن سلوك طريق أداء التكليف وحمل المسؤولية الإلهية والإنسانية سيسقطه من الأعين ويجعله من المغضوب عليهم عند المتسلطين، ويجعل ماء وجهه في معرض تطاول وتهم هؤلاء المستكبرين. و"صبر على الذل وهو يقدر على العز". أي صبر على أن يكون في أدنى المراتب والطبقات الاجتماعية محروماً من المناصب الرفيعة والدرجات التي تؤمّن له العيش مع قدرته على نيل ذلك باقتراف الجنايات وارتكاب المعاصي. فلم يفعل ذلك: "آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّق بي".
هذا الحديث العليّ الصادر من قبل ملكوتي قيمته ومنزلته منزلة الوحي الإلهي لما يحتويه من تعاليم في غاية الأهمية والعمق في مجال أحد أهم القضايا الاجتماعية، مستعرضاً لمعنى وقيمة هذا النوع من الصبر، وهو الصبر عن المعصية.

الصبر عند المصيبة

حياة الإنسان تكون دائماً في معرض الحوادث والبلاءات المؤلمة والشاقة. فهذا من لوازم وجود الإنسان على هذه الأرض. ويوجد في هذا المجال كلام مشهور لمولى المتقين علي (عليه السلام) حيث يصف الحياة الدنيا أنها "بالبلاء محفوظة" فالآلام، والخسائر الجسمانية والمالية، وفقد الأعزاء، والحرمان و... وغيرها من أشكال المصائب كانت ملازمة لتاريخ البشر سواء كانوا متنعمين أم لا.
ومع هذا الحوادث التي تجري على الإنسان دون ميله وإرادته، تبرز صور أعمال الناس. فالبعض يفقد القدرة على المقاومة في وجه المصيبة، ويصاب بهزيمة معنوية. بينما البعض الآخر يتحمل المصاب أو يعتبره أمراً طبيعياً، ويخفف من وقعه، ليخرج منه سالماً ومرفوع الرأس. وبقول الشاعر رودكي فإن عظمة وسمو الإنسان يمكن اختبارها أثناء البلاء والمصيبة.
أما الجزع والنحيب فهما أسلوب الضعفاء وأصحاب القلوب الضعيفة والصغيرة. وهذا هو الميل الطبيعي في غريزة الإنسان التي تفرض حالة من الانفعال العاطفي الذي يسيطر عليه أو يجعله يشكو ويئن، ويحمله على العويل والصراخ وضرب الرأس والأرجل كما هو معروف عند وقوع المصائب. وهنا يكون الصبر على المصيبة بمعنى التسليم والرضا في مقابل الاضطراب العاطفي. والإنسان الصبور عند المصائب هو الذي لا يفقد القوة الروحية والشخصية الإنسانية، ولا ينجرف مع الحوادث التي تقع عليه. فمصيبته لا تبث فيه الوهن ولا تشل عزمه ولا توقفه عن السعي والجهاد في طريق الهدف الأساسي للحياة. وهذا الصبر هو أيضاً ممدوح كما جاء في الحديث "حسن جميل".
ولو تقرر أن يفقد من يفترض عليه سلوك طريق الوصول إلى الهدف، عزيمته وأجزاء من نشاطه المعنوي على أثر كل حادثة مؤلمة، لم يكن من الصحيح أن نتوقع منه المحافظة على القاعدة والذخيرة الروحية اللازمة لطي هذا الطريق.
ولهذا، فإن مقاومة الميول التي تجعل الإنسان ضعيفاً عند المصائب هي العامل الذي يحفظ العزيمة والنشاط الروحي وتمنع من فقدانه وتضييعه. والأمر الأكثر أهمية والأعلى قيمة أن نفس هذه المقاومة تعدّ رياضة وتمريناً صعباً ومفيداً يزيد من قوة الإرادة وصلابة العزم وهو الشيء الذي يستحيل بدونه سلوك هذا الطريق الصعب وخصوصاً عند مواجهة تلك الحوادث. فالصبر عند المصيبة له فائدتان في غاية الأهمّية:
الأولى: حفظ الذخيرة والنشاط المعنوي الذي تبنى على أساسه الأعمال والتحرّكات المفيدة من الضياع أو تزول.
الثانية: تقوية الإرادة والعزم الذي يدفع الإنسان للقيام بالأعمال ويمدّه بالصبر والمقاومة عند المصائب المفاجئة. وهذا النوع من الصبر حثّ عليه بشكل مدهش أولياء وأئمة الدين، نظراً إلى دوره البنَّاء والاستثنائي المدهش في صناعة الإنسان.
ويمكننا أن نشاهد في هاتين الروايتين ما يشير إلى هذه الفلسفة العميقة.
الأولى عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "من لا يُعدّ الصبر لنوائب الدهر يعجز"(6). والثانية عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إن العبد ليكون له عند الله الدرجة لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله في جسده أو يصاب بماله، أو يصاب في ولده، فإن هو صبر بلَّغه الله إياها".(7)
ويظهر بوضوح من هذه الرواية دور الصبر البنَّاء والرافع. وننقل في هذا المجال حادثة تتعلق بعثمان بن مظعون ـ أحد المسلمين الأوائل من ذوي السابقة الحسنى في تاريخ صدر الإسلام ومن الذين هاجروا إلى الحبشة والمدينة ـ حيث فقد ولده الشاب هناك وكان لهذه المصيبة وقع عليه إلى درجة قرر على أثرها الجلوس في البيت وقضاء باقي عمره في العبادة، والابتعاد عن مزاولة الأعمال والنشاطات الاجتماعية. وكان هذا الأثر الذي جعل كل مظاهر الحياة عنده تفقد معناها. وعندما عرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمر توجّه إليه ونهاه عن هذا العمل قائلاً له "لا رهبانية في الإسلام"، أي أنه لا يجوز في الإسلام الانزواء وترك الدنيا وصرف العمر بالعبادات الفردية "إنما رهبانية أمتي الجهاد". فالصبر على المصائب اللاإرادية يعني: تحمل المصيبة وعدم فقدان النشاط والفعالية في الحياة، وتناسي الصدمة الناشئة من الحادثة المؤلمة، وذلك بالاستمرار في العمل والسعي الأساسي للحياة.

الصبر على المصائب الاختيارية

هناك ما هو أهم من الصبر على المصائب القهرية (المفاجئة)، وهو عندما يكون الإنسان سائراً نحو هدفه بوعي ومعرفة بالطريق، فيصبر عند المصائب والمحن التي لابد من حصولها على هذا الطريق، ولا يتوقف عن إكمال السير بسببها.. إننا عندما نحلل بشكل عميق ما كتبه المحققون حول أحداث التاريخ المرتبطة بالجماعات، نصل إلى هذه النتيجة وهي أن الأهداف الإنسانية السامية ـ وعلى رأسها أهداف الأنبياء ـ كانت تتنافى وتصطدم دائماً بمصالح الطبقات المتسلطة الظالمة. ولهذا كنا نرى أيضاً أن حملة لواء تلك الأهداف كانوا في صراع مستمر مع رؤوس تلك الطبقات. وقد ذكر القرآن الكريم في العديد من آياته هذه المواجهات بين الأنبياء والطواغيت والمترفين.
هذا الوضع، الذي هو أمر حتمي في مثل هذا التحرّك، يستلزم كل المصائب والعذابات بأنواعها بالنسبة لسالكي طريق الحق والمنادين بالعدل والقسط وأتباع الأنبياء والمتمسكين بنهجهم. ولأجل أن يستعدَّ المؤمنون مسبقاً، نجد القرآن الكريم يبيّن لهم هذه المخاطر والصعاب: {لَتَبلُونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.(8)
فما يحدث في الواقع، أن الذين يريدون الحياة الإيمانية وتحقق العبودية لله تعالى في وجودهم، والالتزام بالتكاليف الإلهية والمسؤوليات الشرعية، فإنهم سيواجهون لا محالة ذلك الأذى والتضييق والتنكيل بكل أنواعه، وسيرون هذه النبوءة القرآنية متحققة أمام أعينهم. وبالطبع، فإنه كما كانت مرتبة الإنسان من حيث الإيمان والعمل أعلى فإنه سينال من الأذى والمصائب ما يتناسب مع مرتبته، وعليه أن يزيد من قوة تحمله وصبره. ولقد أشار الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في حديث له إلى هذا المطلب قائلاً: "إن أشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الذين يلونهم الأمثل فالأمثل".. كما أن تحمل هذا النوع من المصائب ليس مثل تحمل تلك المصائب والحوادث المؤلمة التي هذه من النوع السابق (اللااختيارية). لأنه في هذا النوع لا يكون الإنسان مضطراً في كل الحالات والتقادير إلى تحمل بلائها، بل على العكس يستطيع وقت ما يشاء أن يرجع إلى الحياة السهلة المريحة، وأن يحمي نفسه من الوقوع فيها.
أما الذي يرتضي أن يتحمل هذه البلاءات والمصائب التي لابد منها، فهو الذي يسير نحو الهدف النهائي. أما الذي يرجح السلامة والجلوس في البيت ولا يخطو خطوة واحدة خارجه، ولا يتحمل عناء السفر، ويغض النظر عن كل الفوائد الموجودة في السير والسفر، أما الذي يمكنه على هذا الأساس أن يصون نفسه طوال حياته من السقوط من أعلى الجبل أو مواجهة الحيوانات المفترسة، أو قطّاع الطرق ومئات الحوادث الأخرى التي تقع أثناء الأسفار، وكذلك الإنسان اللامبالي الذي لا يشعر بأية مسؤولية ولا يرى لحياته هدفاً مثل هذا الشخص لن يخطو خطوة واحدة في طريق يوصل إلى الهدف، ويستحسن أن تبقى حياته خالية من الأحداث ومن كل ما يشغل البال، كما يقول الشاعر سعدي:


بالأبحار منافع لا تحصى ومن أراد السلامة يبقى (مترجماً)
فإذاً، حوادث ومصائب طريق الأنبياء هي من النوع الاختياري. والذين يبتلون بها هم أتباع أمير المؤمنين (عليه السلام): "وخض الغمرات إلى الحق"، وهم الذين استجابوا لنداء الأنبياء بصدق واستقاموا.. فالصبر على هذا الطريق من أهم أنواع الصبر، وهو يظهر معدن الإنسان وجوهره. هذا الصبر يعني قبول المصيبة، وهو الذي يتطلب منه أن لا يكون نادماً على ما ابتلي به.
خباب بن الأرث هو أحد المسلمين المضحين، ومن الأوائل الذين آمنوا بالإسلام، وحرموا بسبب إيمانهم من معظم أموالهم وممتلكاتهم، هو نفسه قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متوسِّد ُردَه في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة شديدة، فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله لنا، فقعد وهو محمرُّ وجهه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن كان من كان قبلكم ليُمشّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فينشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه. ولَيُتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه".(9)
وبهذا النوع من الكلام الملتهب، كان رسول الله يشعل في الأرواح وقود المقاومة والإرادة الفولاذية، ويحملهم على الصبر والاستقامة أمام البلايا الناشئة من سلوكهم طريق الإيمان. ومن الممكن أن يصبر الإنسان على القيام بالتكاليف الإسلامية، أو يصبر عن اقتحام المعاصي، ويصبح بذلك في عداد المؤمنين بالإسلام والسائرين على طريقه، لكنه قد لا يقاوم المصائب والحوادث التي لابد من حصولها في هذا الطريق، ويصاب على أثر ذلك بالوهن المعنوي والعقائدي ويحل به اليأس والإحباط، مما يؤدي إلى توقفه وعدم وصوله إلى المقصد النهائي، ويرجع إلى الوراء ملقياً قسماً من الوظائف والتكاليف على الطريق. فبلوغ الغاية والاستمرار في المسير متوقف على وجود هذا النوع من الصبر، أي الصبر على المصائب الاختيارية.

طرق تحصيل هذا الصبر

بسبب أهمية الصبر والدور الأساسي له. فقد تم التأكيد الكبير عليه في عدة آيات من القرآن الكريم، بحيث يؤدي ذلك إيجاد أرضية لهذه المقاومة في الإنسان. وإحدى الطرق التي تؤدّي إلى إيجاد الصبر على المصائب الاختيارية هي طرح وعرض المصائب القهرية (اللااختيارية).
ففي القرآن الكريم، نجد أن الله تعالى ولأجل تسهيل الموت على سالكي التكليف في سبيل الله يقول لنا إن الموت هو المصير الحتمي لكل البشر. فمن لا يموت في ميادين القتال، يموت في بيته أو على فراشه. وإن الحياة بيد الله. أما الموت الذي يكون في سبيل الله فهو عمل ينال عليه الإنسان الأجر والثواب. يقول الله تعالى:
{وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يُرِدْ ثوابَ الدنيا نؤته منها ومن يُرِدْ ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين}.(10)، وأيضاً: {ولئن قُتِلتم في سبيل الله أو مُتُّم لمغفرةٌ من الله ورحمة خيرٌ مما يجمعون}.(11)، وأيضاً: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين * ولا تحسبّن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون}.(12)
وهناك طريق آخر أتت على ذكره الآيتان (139) و(140) من سورة آل عمران يدفع الإنسان نحو الأمام فيرضى بالمصائب الحاصلة على هذا الطريق، كما في قوله: {إن مسّكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس..}، وقوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
وهناك آيات أخر اعتمدت هذا الأسلوب. وكأسلوب آخر أيضاً، ذكر في الآية (146) من نفس السورة ما يذكّر بأحوال السابقين وجهادهم وصبرهم وتحملهم للمصائب الاختيارية: {وكأي من نبي قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}، بالإضافة إلى العديد من الآيات الأخرى التي تحدثت عن تلك الوقائع في حثها على الاستمرار على نهج الأنبياء.
وهذا الصبر على مثل هذه المصائب، مع أنه صعب جداً، ويتطلب إرادة قوية وإيماناً راسخاً، فإنه بنفسه يلعب دوراً إعجازياً في إيجاد الإرادة القوية والإيمان والأهم من ذلك، بناء وإيجاد جنة الإسلام الاجتماعية. ولهذا، تم الحث عليه والأمر به في الآيات القرآنية والروايات التي لا حصر لها من كلمات أئمة الهدى (عليهم السلام)، وبوسائل وأساليب متعددة.
وفي بحثنا هذا الذي يعتمد أكثر على الروايات، نشير إلى رواية في هذا المجال تشمل الصبر عند وقوع أي نوع من المصائب. فعن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "الحر حر على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره وإن أسر وقهر، واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر..".(13)

آثار وفوائد الصبر

في ختام مطالب هذه المقالة ينبغي أن نتحدث عن فوائد وآثار الصبر البناءة. مع أننا قد أشرنا إليها في طيات الكلام السابق، ولكن لأجل المزيد من الإطلاع على الآثار الفردية والاجتماعية للصبر، نتحدث هنا بشيء من التوسعة. إلاّ أننا لن نتعرض إلى الفوائد الأخروية، أي ثواب وأجر الصابرين يوم الحساب مع أنه لا يمكن التفكيك بينها وبين الآثار والفوائد الدنيوية. إننا نريد هنا التعرض إلى الآثار التي تحصل في نفس هذه المرحلة من الحياة، أي الحياة الدنيا فيما يتعلق بالفرد الصابر والمجتمع أو الفئة الصابرة. فمن أين نبدأ، وما هي الفائدة الأولى التي تطرح نفسها؟
نجيب بجملة جامعة: الدنيا والآخرة والأهداف الإنسانية، بل وأيضاً المقاصد الشريرة، أي كل مقصد يريده الإنسان مرهون بالصبر والثبات.
وإذا احتجنا إلى الاستدلال على هذا الأمر، ولم تقنعنا تجارب البشر طوال تاريخهم الممتد عبر الأزمنة والعصور، فإن هذه المعادلة القاطعة والواضحة كافية: "إن الوصول إلى أي هدف يحتاج إلى السعي، والسعي يستلزم الصبر والاستقامة (الثبات عليه)". وكل إنسان قد خبر هذه المعادلة في حياته في العديد من الأحداث.

الثبات والنصر

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في إحدى كلماته الملهمة للحكمة:
"لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان".(14)
وفي حديث آخر يبين لنا (عليه السلام) هذا المعنى بعبارة أخرى قائلاً: "من ركب مركب الصبر، اهتدى إلى ميدان النصر".
وفي حرب صفين قال (عليه السلام) في خطبة له يحث ويعبئ الجند: "واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر".
فهل حقاً ان الصبر والثبات موجب للوصول إلى الهدف؟ وإذا كانت هذه قاعدة عامة وقانوناً ثابتاً لا يقبل التخلف، لماذا نشاهد طوال التاريخ أفراداً أو جماعات لم يصلوا إلى أهدافهم مع أنهم كانوا في ميادين العزة يبذلون ما ينفع الثبات والمقاومة، ولم يحققوا النصر أو يذوقوا حلاوته؟!
في صدر الإسلام يوجد حوادث ليست بالقليلة شاهدة على هذا الأمر، مثل عاشوراء وشهادة زيد بن علي (عليه السلام) والتوابين و..
ولكي يتضح الجواب عن هذا السؤال الذي يطرح أكثر الناس نحتاج إلى شيء من الدقة. فلعل هؤلاء الناس الذين يطرحون مثل هذا التساؤل ويعتبرون هذه الأحداث التاريخية التي لم تثمر أو تصل إلى غايتها بحسب الظاهر (كعاشوراء وشهادة زيد و...) هي أمور تنقض هذا القانون العام (قانون الصبر والظفر).
إن هؤلاء لم يدركوا بشكل صحيح هدف وغاية كل واحدة من هذه الحوادث والوقائع، والتي يكون تحقيقها لهذا الهدف أو تلك الغاية هو الانتصار والفوز.
لهذا نبدأ أولاً بالإجابة عن سؤال يتعلق بهدف هذه الحوادث التاريخية، وبالإجابة عنه بشكل صحيح ستتضح النتيجة، وهي أن أصحاب هذه الحركات لم يهزموا إطلاقاً!
وكمقدمة ينبغي أن نلتفت إلى أن الأهداف تختلف من حيث قربها وبعدها عن التحقق. فبعضها تكون نتيجتها سريعة وقريبة، والآخر يحتاج إلى أزمنة طويلة: كغرس نبتة وتأمين كل ما تحتاجه حتى تنمو وتثمر.
فإذا تأمنت هذه المقدمات، ولم يحصل أي تقصير في إعدادها من خلال مواجهة العوامل السلبية والمفسدة، فإنها ستثمر حتماً. ولكن بعض الأشجار تحتاج من الناحية الطبيعية إلى أكثر من عشر سنوات لتعطي الثمار المطلوبة.
فلاشك أن المقصد النهائي من تربية هذه الغرسة التي تحتاج في نموها إلى عشر سنوات، هو الحصول على الثمار. ولكن أن نكبر هذه الغرسة شيئاً ما. وإذا مرت سنة بعد سنة فعلى المزارع الذي لم يكس عن الاهتمام بها، أن يفرح أو يطمئن بأن تعبه في هذه السنة أو تلك لم يذهب هدراً. ولكن بالنسبة للمشاهد من بعيد والذي اطّلع على أتعاب وزحمات هذا المزارع الكادح والصبور، فإنه بعد مرور السنة الأولى، وحيث إنّه لم يشاهد أية ثمرة، فإنه سيخطِّئ المزارع انطلاقاً من اليأس وعدم الوثوق، وينقض القول المعروف "بعد الصبر يأتي الظفر"، ويستدل على ذلك من خلال تجربته الناقصة. بينما يعرف الجميع أن مثل هذا الرأي يرجع إلى قصر النظر وقلة الصبر ويقولون لهذا الناقد أنه لا ينبغي أن نتوقع نتيجة عمل عشر سنوات في أول سنة.
وهكذا، فإن نهضة عاشوراء، وكل الوقائع التي كانت امتداداً لها وعلى أساس توجهها قد حققت ما كانت تصبو إليه ووصلت إلى الهدف الذي رسمته.
هذه الوقائع، كانت كل واحدة منها خطوة ناجحة باتجاه "القضاء على السلطات الغاصبة وإقامة المجتمع الإسلامي المنشود". ولاشك بأنه بعد هذه الخطوات الأولى، لو استمر اللاحقون بالمسيرة، لتحققت الغاية المطلوبة من وراء مجموع هذه المساعي والتحركات. أما أن نتوقع تحقق مثل هذا الهدف من سعي شخص واحد أو عدة أفراد في مرحلة ما، فإنه في غير محله.
وفي المثال السابق يمكن أن نقول لذلك المشاهد القليل الصبر والخبرة: إن أولئك الذين أدركوا متاعب المزارع وأشرفوا على هذه الأعمال يعلمون جيداً أن كل يوم يمضي وكل ساعة ستكون مفيدة ومنتجة، وهم يدركون نتائج الصبر في كل لحظة قبل أن تأتي أختها. فمرور سنتين من العمل يعني اقتراب الغرسة من النضج. ولو لم يكن هذا السعي في هاتين السنتين لتأخرت الثمار سنتين. ولعله يضيع الهدف النهائي ولا تصل إلى المطلوب.. فهل الواقع غير ما ذكرنا؟!
وإلى جانب هذه الحقيقة، يوجد حقيقة أخرى؛ وهي أنّه بعد بروز مانع يمنع المزارع الحريص من الاستمرار في عمله، إذا لم يتابع مزارع آخر عمله، ولم يكمل أعمال السنة الثالثة والرابعة، فإنّ هذه الغرسة أو الشجرة لن تنضج أبداً.
ولاشك بأن نتيجة الصبر في السنتين الأوليين قد حصلت، كما أن قلع أو قطع شجرة متجذرة أو إزالة صخرة كبيرة بدون التجهيزات اللازمة واليد القوية ليس ممكناً، ولن تعطي أية نتيجة بدون وجود الصبر. ولو أنجزت أول يد قوية وصبورة المقدمات الأولى اللازمة وبسبب مانع ما توقفت، ثم أكملت الأيدي الأخرى العمل فإنها ستقترب نحو النتيجة المطلوبة.
وقد قام زيد بن علي (عليه السلام) بسبب ظهور علامات نصر ولكنه لم ينتصر، وإنمّا حقق ما كان متوقعاً من مثل نهضته. فإنّ قيامه واستشهاده كان ضربة على الصخرة الصلبة لحكم بني أمية. هذه الصخرة التي يتطلب تحطيمها عدة ضربات متتالية. وعندما توالت الضربات على أثر تلك الضربة انهارت هذه الصخرة السوداء التي كانت تجثم على صدر الأمة الإسلامية.
ولاشكّ بأنه لو لم تكن الضربة الأولى لما حققت الضربات اللاحقة مطلوبها، أو أنّها ما كانت لتحدث (تلك الضربات).
وكأن الحديث يشير إلى ما نتحدث عنه، بأن شهادة الحسين بن علي (عليه السلام) كان سبباً لسقوط التيار السفياني وشهادة زيد بن علي (عليه السلام) سبباً لسقوط الحكم المرواني.

الآثار الفردية والنفسية للصبر

بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية للصبر التي هي الانتصار والوصول إلى الهدف والمقصد، يوجد آثار أخرى إيجابية وذات أهمية تنعكس على روحية ونفسية الصابر. وبالإطلاع على هذه الآثار المدهشة، يتيسر لنا فهم الكثير من التضحيات التاريخية، وخصوصاً تضحيات أبطال كربلاء العظيمة. وما نقصده من الآثار النفسية هو تلك الآثار التي تتجلى في نفس الشخص الصابر، وتعود عليه بنتائج داخلية قبل تحقق النتائج الخارجية. وأول تأثير إيجابي وبنّاء للصبر هو أن الصابر يزداد قوة وعزماً ويشتد رفضه للهزيمة والانكسار، مثل حال التمارين الرياضية الصعبة. وهذه الحالة شاملة لكل الأمور والقضايا في الحياة سواء كانت دنيوية أو أخروية.
وأن جميع الهزائم التي تقع أثناء المواجهات الاجتماعية والدينية والعملية، تنبع من الهزيمة الروحية وقبول الانكسار. ومثل هذه الروحية المهزومة، تكون آثار الهزيمة فيها مضاعفة عن الهزيمة والضربة التي تتلقاها من جراء عدم اكتمال العتاد العسكري وتمامية المناورات. فالجندي الذي يدير ظهره هارباً عند مواجهة العدو في ساحة المعركة، هو الذي يكون قد هزم نفسياً قبل عجزه الجسماني والمادي. بينما إذا لم يهزم روحياً ومعنوياً، فمن المستحيل أن يولي هارباً فاراً من ساحة المعركة. فالخاصية الأولى للصبر في البعد الفردي هو إيجاد مثل هذه الروحية في الشخص والصابر.
إننا نجد الناس عند حدوث المصائب في حياتهم ـ كالخسائر المادية والأمراض والآلام والموت... ـ لا يصبرون، بل يستسلمون ويجزعون. وهكذا عندما تواجههم العوائق والموانع العديدة، فإنهم ينسحبون.. وفي المقابل من يصبر منهم ويستفيد في كل حادثة من سلاح الصبر القاطع، يكتسب قوة إضافة وقدرة أعلى عند مواجهة مشاكل الحياة.
ونستطيع أن نشبه الإنسان العديم الصبر بالجندي الذي ينزل إلى ساحة المعركة بدون درع واق. فمثل هذا الجندي سيسقط عند أول ضربة يوجهها له العدو. بينما الإنسان الصبور يشبه الجندي الذي يحمل درعاً يقي كل جسمه وهو يمتلك العدة اللازمة. فهذا الجندي يعد قتله أصعب بدرجات من الأول. والذي لا ينهزم في معترك الحياة هو الذي استعد لها مسبقاً، ولبس لها درع الصبر الواقعي الذي لا يقبل بالهزيمة. ومثله لن يضعف بسهولة أو يقبل المهانة، ولن ينزعج من مواجهة المصاعب والآلام التي ينبغي توقعها أثناء مسيره نحو الكمال والسعادة. وقلبه لن يسقط، وأقدامه لن تتزلزل. وبهذا البيان الواضح يمكن لنا سبر أغوار هذا الإلهام الإسلامي العميق الصادر من الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: "قد عجز من لم يعد كل بلاءِ صبراً".
وهذا ما يمكن أن نشاهده في صلابة وثبات الرجال العظام الذي صنعوا التاريخ. وعلى رأسهم الأنبياء وأهل الله الذين تحملوا منذ البداية كل ألوان العذاب وصنوف الأذى من الطغاة. ومع ذلك انتشرت دعوتهم في كل الأرجاء، وكان لها أثر كبير. ولم يكن ذلك إلا بالصبر الذي أعدوه لمواجهة تلك الموانع والعقبات فأوجد في أنفسهم روحاً لا تهزم وحوّلهم إلى أفراد يتمتعون بصلابة عالية جداً.
وكان أعداؤهم في الكثير من الموارد يتمتعون بالإمكانات الكبرى، ولكنهم تعبوا وعجزوا، حينما لم يعجزوا هم ولم ينثنوا.
كان المتوكل العباسي ـ هذا الامبراطور المتجبر ـ يقول: "لقد أتعبني ابن الرضا". فكيف استطاع الإمام الهادي (عليه السلام)، الذي قضى معظم أيام حياته تحت الضغوط التي مارسها عليه المتوكل، أن يتعب هذا الحاكم المتسلط؟!
حينما يكون أحد المتحاربين ضعيفاً بلحاظ الإمكانيات المادية ويقضي معظم أيامه في السجن والبعد عن الأمن والراحة، ولكن لا يتململ ولا يتعب أمام كل الضغوطات والشدائد، ويستمر رغم كل العوائق والموانع الموجودة على طريقه الذي يتطلب سعياً طويلاً، فمن الطبيعي أن يجعل خصمه تبعاً ومحبطاً، حتى وإن كان هذا الخصم يتمتع بكل الإمكانات المادية والقدرات، وذلك لأنه لا يمتلك روحية الإيمان بالسعي والهدف.
هذه هي الخاصية العجيبة للصبر التي تجعل الإنسان لا يقبل بالهزيمة.

بروز الخصال الحسنة

الإنسان غالباً لا يستطيع أن يقيّم نفسه قبل الامتحان والاختبار. وهو بذلك لا يعرف الكثير عن القوى الكامنة فيه. وعلى سبيل المثال، إذا كان هناك رجل قوي بطبيعته، ولكنه لا يؤدي التمارين ولا يقوم بأي نشاط، كأن يرفع حملاً ثقيلاً يختبر به قوته، فمن الطبيعي أن يجهل هذا الإنسان قواه ومميزاته الجسمانية.
إنه يقدر على اكتشاف قوته حينما يطلب منه القيام بعمل يحتاج إلى قوة. وهنا ندرك الأثر الثاني للصبر، لأنه يجعل الإنسان الصابر المقاوم في مختلف مجالات الحياة مطلعاً على موازين قوته والقدرات الإيجابية الكامنة فيه، التي لا تظهر في الحياة العادية الهادئة. هذا الأمر يدركه جيداً كل الذين ذاقوا طعم الشدائد وتعرضوا للضغوطات والمحن أثناء سيرهم نحو أهدافهم على أساس معتقداتهم الشريفة.. أمثال هؤلاء يشاهدون تلك الفتوحات والإنجازات في ذواتهم أثناء مواجهة المخاطر والصعاب، التي يظن العادي أنها لا تقاوم. وينالون من جراء ذلك القوى العظيمة والمدهشة. فهم قد اكتشفوا في أنفسهم ذلك الشيء الذي كانوا يجهلونه. فالصبر إذن يؤدي إلى أن يتعرف الإنسان على نفسه أكثر ويكتشف تلك الأمور الإيجابية التي أودعت في داخله.

التوجه والتوكل على الله أكثر

ثالث خاصية بناءة للصبر هي أن الإنسان عندما يكون في أية مرحلة من المراحل وحيداً ويصبح أقرب إلى الله ويتوكل عليه أكثر. البعض يتصور أن الاتكال على الله يتعارض ويتنافى مع الاعتماد على النفس، وأن الذي يريد أن يعتمد على الله لا ينبغي أن يعتمد على نفسه أو يثق بها. وحينما يقال: اتكلوا على الله، فإنهم يقولون لماذا تسلبون من الناس روحية الثقة والاعتماد على النفس. وكأن الذي يدعو الناس إلى التوكل على الله يقول لهم لا تعتمدوا على أنفسكم!!
أما بالنسبة للمؤمنين بالله، فإنه يرى هناك تلازماً بين التوكل على الله والاعتماد على النفس. بل ويعتبر أن الاعتماد على النفس من أبعاد الصبر، ووسيلة تؤدّي إلى التوكل والاعتماد على الله. أمّا عديم الصبر فإنّه سيتزلزل ويتفاجأ أثناء مواجهة المصائب الاختيارية بسبب عدم ثقته بنفسه وسينسى الله ويبتعد عنه أيضاً.
فالإنسان عندما يواجه شدائد ومصائب الدهر، وتحيط به الأزمات أو تطبق عليه الصعاب، فلا يجزع أو ينتحب، فسوف تنفتح عليه نوافذ الارتباط العميق بالله ويسهل عليه الاتصال بقلبه وروحه بنور حضور الله. أما إظهار العجز والضعف، فإنه سوف يبعده ويقطعه عن الله تعالى وعن نفسه.
هذه من الحقائق التي تكون التجربة والمشاهدة من أقوى الأدلة عليها وأثبتتها. وأولئك الذين استخدموا في مثل تلك الأحوال سلاح الصبر يقطعون ويذعنون بهذه الحقيقة.
ربَّنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.


والحمد لله رب العالمين.













آخر مواضيعي

0 الاغذية المناسبة لاطفال التوحد
0 احذية رياضية 2017
0 حلم الاستغفار في المنام
0 تعليقات مضحكة فيس بوك 2016
0 اسعار البنزين شهرين 2020
0 مسلسل النمر الحلقة 28
0 ضباب الرياض 1437 - صور ضباب الرياض 2016
0 سكرين كوميدى 2017
0 صور كارمن سليمان ومحمد عبده , كارمن سليمان مع محمد عبده , صور كارمن ومحمد عبده
0 مباراة تونس وساحل العاج كاس امم افريقيا 2013 , تونس وساحل العاج في امم افريقيا 2013


  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اهمية عشبة الصبر الصحية 2014 -الاستخدامات العلاجية لعشبة الصبر - فوائد عشبة الصبر 2013 أنِـيـَنٌ طِفْلَهْ .. صحة - طب بديل - اعشاب - تغذية - رجيم - نصائح طبيه 0 18 - 6 - 2013 12:36 PM
اهم فوائد عشبة الصبر ، اهمية عشبة الصبر الصحية ، الاستخدامات العلاجية لعشبة الصبر 2014 أنِـيـَنٌ طِفْلَهْ .. صحة - طب بديل - اعشاب - تغذية - رجيم - نصائح طبيه 0 25 - 5 - 2013 12:25 PM
فوائد الصبر 2013 ، الصبر عند الفتيات 2014 ، ماهى اهميه الصبر 2015 أعماق السكون الحياة الزوجية - زواج - الحمل - مشاكل الزواج 0 24 - 4 - 2013 10:42 AM
يجب علي كل امراة تعلم الصبر , الصبر مفتاح الحياة السعيدة , المراة يجب ان تتحمل زوجها عروسة الخليج الحياة الزوجية - زواج - الحمل - مشاكل الزواج 0 16 - 7 - 2012 03:12 AM
~{ قالوا الفرج عقب,, !! الصبر قلت الصبر همٍ دفين }~ْ الــ غ ــآمــض شعر - قصائد - قصايد صوتيه - همس القوافي - قصائد الشعراء 10 24 - 3 - 2009 04:35 PM


الساعة الآن 05:14 PM.


المواضيع المكتوبة في منتديات خجلي لاتعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وإنما تعبر عن وجهة نظر كاتبها

Security team

تصميم دكتور ويب سايت