منتديات خجلي

منتديات خجلي (http://www.5jle.com/vb/)
-   مواضيع اسلاميه - فقة - عقيدة (http://www.5jle.com/vb/f2/)
-   -   نظرات في سورة النور (http://www.5jle.com/vb/f2/t21204.html)

مصطفي سيف 3 - 3 - 2012 09:30 PM

نظرات في سورة النور
 
نظرات في سورة النور
بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم وصلي الله علي نبينا محمدا النبي الأمي المبعوث رحمة للعالمين .... أما بعد فقد لاحظت أن سورة النور من سور القرآن الكريم التي بداياتها تختلف كثيرا عن جميع سور كتاب الله , وتشعر فيها وكأن الله عز وجل قد جمع خلقه من المؤمنين في صعيد واحد وبدأ يخاطبهم وجها لوجه بكلمات مفصلة وموجبة للتنفيذ الفوري , و بداية لن تري في القرآن كله بداية لسورة مثلها لعظم ما جاء فيها من أوامر ونواهي واضحة جلية لا لبس فيها , فتبدأ بآية شديدة جداً (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ آية(1)) وفيها تنبيه وتوجيه للمسلمين لأحكام وآداب هي قوام المجتمع الإسلامي القويم , وإلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة , بما فيها من توجيهات رشيدة ,وآداب سامية ,تحفظ المسلم ومجتمعه , وتصون حرمته وتحافظ عليه من عوامل التفكك الداخلي والانهيار الخلقي الذي يدمّر الأمم , وأوضح لهم الله إذا أطاعوه فلهم الوعد بسيادة العالمين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ آية(55) , وسمّاها الله بسورة النور لما فيها من إشعاعات النور الربًاني بتشريع الأحكام والآداب والفضائل الإنسانية التي هي قبس من نور الله على عباده وفيض من فيوضات رحمته ولما فيها من قوانين اجتماعية ونظماً تربوية تملأ حياة من التزمها نوراً وسعادة (اللَّهُ نُورُ السَّمَأوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ آية 35) , وتشبيه النور بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دريّ يوقد من شجرة مباركة، هذا التشبيه كأنه يدلّ على أن النور حتى نحافظ عليه مضيئاً يجب أن نحيطه بما يحفظه والفتيل الذي به نشعل النور إنما هو الآية الأولى في السورة هذه الآية الشديدة التي تحرك الناس لإضاءة مصباح مجتمعاتهم الصالحة بتحقيق الضمانات الأخلاقية حتى يبقى النور مشعّاً , والسورة الكريمة – كبقية السور – هي آفاق تربوية راقية ، ولا يدّعي لبيب الإحاطة بها إلا كما يغرف الناهل من النهر الدفّاق ، وينحت المثّال في الجبل العملاق ، أو يجول الفلكيّ بمنظاره في أُوْلى السبع الطباق . وهذه نظراتي علي هذه السورة سورة النور......
1- افتتحت هذه السورة بكلمة "سورة"وهو افتتاح لم تشترك معها فيه سورة أخرى من سور القرآن الكريم والسورة القرآنية : هي مجموعة من الآيات المسرودة ، لها مبدأ ولها منتهي ، وجمعها : سُوَر . وكلمة سورة مأخوذة من سور المدينة ، وكأن السورة القرآنية سميت بهذا الاسم لإحاطتها بآياتها إحاطة السور بما يكون بداخله من شيء
عظيم,أو أنها فى الأصل تطلق على المنزلة السامية ، والسورة القرآنية سميت بذلك لرفعتها وعلو شأنها .فقوله تعالي : (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ آية (1)) , مطلع فريد في القرآن كله . الجديد فيه كلمة(فرضناها) لتوكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة , والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات , فتذكرهم بها تلك الآيات البينات , وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .
2- هذه سورة النور.. يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: (الله نور السماوات والأرض)ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ; ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة . وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية , تنير القلب , وتنير الحياة , ويربطها بذلك النور الكوني الشامل إنها نور في الأرواح , وإشراق في القلوب , وشفافية في الضمائر , مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .
3- وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف , ومن آداب وأخلاق : (سورة أنزلناها وفرضناها , وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). . فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ; ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية , وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية . .
4- والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود . وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة , التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة . والهدف واحد في الشدة واللين . هو تربية الضمائر , واستجاشة المشاعر ; ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة , حتى تشف وترف , وتتصل بنور الله . . وتتداخل الآداب النفسية الفردية , وآداب البيت والأسرة , وآداب الجماعة والقيادة , بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله , متصلة كلها بنور واحد هو نور الله . وهي في صميمها نور وشفافية , وإشراق وطهارة . تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض . نور الله الذي أشرقت به الظلمات . في السماوات والأرض , والقلوب والضمائر , والنفوس والأرواح .
5- فقوله تعالي : (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ آية (1)) : والمعني
أ- تفسير القرطبي : مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر . وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة : ( علموا نساءكم سورة النور ) . وقالت عائشة رضي الله عنها : ( لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل ) . " وفرضناها " قرئ بتخفيف الراء ; أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام . وبالتشديد : أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة . وقرأ أبو عمرو : " وفرضناها " بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما . والفرض القطع , ومنه فرضة القوس . وفرائض الميراث وفرض النفقة . وعنه أيضا " فرضناها " فصلناها وبيناها . وقيل : هو على التكثير ; لكثرة ما فيها من الفرائض . والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ; ولذلك سميت السورة من القرآن سورة . قال زهير : ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب .
ب - تفسير ابن كثير: يقول تعالى : هذه " سورة أنزلناها " فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها " وفرضناها " قال مجاهد وقتادة : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود . وقال البخاري : ومن قرأ فرضناها يقول فرضناها عليكم وعلى من بعدكم " وأنزلنا فيها آيات بينات " أي مفسرات واضحات " لعلكم تذكرون " . :
ج - تفسير الجلالين : بقوله تعالي, هذه (سورة أنزلناها وفرضناها) مخففة ومشددة لكثرة المفروض فيها (وأنزلنا فيها آيات بينات) واضحات الدلالات (لعلكم تذكرون) بإدغام التاء الثانية في الذال تتعظون.
د- قال سيد طنطاوي في الوسيط:بقوله تعالي هذه سورة قرآنية . أنزلناها عليك - أيها الرسول الكريم - ، وأوجبنا ما فيها من أحكام ، وآداب وتشريعات ، إيجابا قطيعا ، وأنزلنا فيها آيات بينات واضحات الدلالة على وحدانيتنا ، وقدرتنا ، وعلى صحة الأحكام التى وردت فيها ، لتتذكرها وتعتبروا بها وتعتقدوا صحتها وتنفذوا ما اشتملت عليه من أمر أو نهى .
وجمع - سبحانه - بين الإنزال والفرضية فقال : { أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } لبيان أن الغرض منها ليس مجرد الإنزال وإنما الإنزال المصحوب بوجوب تنفيذ الأحكام والآداب التى اشتملت عليها ، والتى أنزلت من أجلها .
ومعلوم أن إنزال السورة كلها . يستلزم إنزال هذه الآيات منها فيكون التكرار فى قوله - تعالى - { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } لكمال العناية بشأنها ، كما هي الحال فى ذكر بالخاص بعد العام .
و " لعل " فى قوله - تعالى - { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } للتعليل . أى : لعلكم تتذكرون ما فيها من آيات دالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وعلى سمو تشريعاتنا ، فيؤدى بكم هذا التذكر إلى عبادتنا وطاعتنا .

6- ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط:
أ- الشوط الأول : و يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ; ويليه بيان حد الزنا , وتفظيع هذه الفعلة , وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة , فلا هي منهم ولا هم منها . ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ; واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة . ثم حديث الإفك وقصته . . وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات , ومشاكلة الطيبين للطيبات . وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء .
ب- الشوط الثاني : ويتناول وسائل الوقاية من الجريمة , وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية . فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها , والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم . والحض على إنكاح الأيامي . والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . . وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور , ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية , وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين , وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية .
ج - الشوط الثالث : و يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة , فيربطها بنور الله . ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله . . وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ; أو كظلمات بعضها فوق بعض . ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق:في تسبيح الخلائق كلها لله . وفي إزجاء السحاب . وفي تقليب الليل والنهار . وفي خلق كل دابة من ماء , ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها , مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار . .
د- الشوط الرابع : ويتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [صلي الله عليه وسلم] في الطاعة والتحاكم . ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم . ويعدهم , على هذا , الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين , والنصر على الكافرين .
ه - الشوط الخامس : يعود إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء . وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة , مع رئيسها ومربيها - رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] .
وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض , وعلمه بواقع الناس , وما تنطوي عليه حناياهم , ورجعتهم إليه , وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم . وهو بكل شيء عليم .
7- والدروس المستفادة من هذه السورة :
الدرس الأول:
طبيعة السورة وأحكامها :
فقوله تعالي : (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ آية (1))
توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة , والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات , فتذكرهم بها تلك الآيات البينات , وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .
الدرس الثاني:
حد الزنا والقذف والملاعنة.
أ- حد الزنا :
فقوله تعالي : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ آية (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ آية (3)) , فهي الصرامة في إقامة الحد ; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما , وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته , تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين , فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين . فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون , إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان ,وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة ; لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز . وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة ; وتقطع ما بينه وبينها من روابط . وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا ! فأراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد , أو لا تهدف إلى إقامة بيت , وبناء عش , وإنشاء حياة مشتركة , لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية , التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين , وبتعبير شامل التقاء إنسانين , تربط بينهما حياة مشتركة , وآمال مشتركة , وآلام مشتركة , ومستقبل مشترك , يلتقي في الذرية المرتقبة , ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك , الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان . من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل , ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها . فالإسلام منهج حياة متكامل , لا يقوم على العقوبة ; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة . ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر .
*ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
* ظاهر قوله - تعالى - : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ . . . } يفيد أن هذا الجلد لكل من ارتكب هذه الفاحشة سواء أكان محصنا (متزوجا)أم غير محصن .
ولكن هذا الظاهر قد فصلته السنة الصحيحة . حيث بينت أن هذا الحد ، إنما هو لغير المحصن . أما المحصن - وهو المتزوج أو من سبق له الزواج - فإن حده الرجم حتى يموت .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : " هذه الآية الكريمة فيها حكم الزانى فى الحد " .
وللعلماء فيه تفصيل ونزاع ، فإن الزانى لا يخلو إما أن يكون بكرا : وهو الذى لم يتزوج ، أو محصنا : وهو الذى قد وطىء فى نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل .
فأما إذا كان بكرا لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما فى الآية . ويزاد على ذلك أن يُغرَّب(يسجن) عاما عند جمهور العلماء .
وحجتهم فى ذلك ما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة ، " أن أعرابيين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابنى كان عسيفا - أى أجيرا - عند هذا فزنى بامرأته فافتديت ابنى منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبرونى أن على ابنى جلد مائة وتغريب عام . وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك . وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أُنَيس - وهو رجل من قبيلة أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها ، فاعترفت فرجمها " " , ففى هذا دلالة على تغريب الزانى مع جلده مائة . إذا كان بكرا لم يتزوج فأما إذا كان محصنا فإنه يرجم .
* كذلك أخذ العلماء من قوله - تعالى - : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله . . . } أنه لا تجوز الشفاعة فى الحدود ، كما لا يجوز إسقاط الحد؛ لأن فى ذلك تعطيلا لتنفيذ شرع الله - تعالى - على الوجه الأكمل .
* يرى كثير من الفقهاء أن التحريم فى قوله - تعالى - : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } للتنزيه ، وعبر عنه بلفظ " حُرِّمَ " للتغليظ والتنفير من الإقدام على زواج المؤمن من الزانية ، أو على زواج المؤمنة من الزانى .
ويرى آخرون أن التحريم على ظاهره ، وأنه لا يجوز للمؤمن أن يتزوج بالزانية . وكذلك لا يجوز للمؤمنة أن تتزوج بالزانى . وعلى أية حال فالمتدبر فى هاتين الآيتين يراهما ، تشددان العقوبة على من يرتكب جريمة الزنا ، وتتنفران من الاقتراب منها وممن يقع فيها أعظم تنفير ، لأن الإسلام حرص على أن ينتشر العفاف والطهر بين أفراد المجتمع الإسلامى ، وشرع من وسائل الوقاية ما يحمى الأفراد والجماعات من الوقوع فى هذه الرذيلة .

ب- حد قذف المحصنات العام :
*فقوله تعالي : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)) , وهو إتهام المرأة المتزوجة بالزنا ويطلق الإحصان على المرأة والرجل ، إذا توفرت فيهما صفات العفاف . والإسلام ، والحرية ، والزواج .
وأنما خص - سبحانه - النساء بالذكر هنا : لأن قذفهن أشنع ، والعار الذى يلحقهن بسبب ذلك أشد ، وإلا فالرجال والنساء فى هذه الأحكام سواء . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات:
- حسية : وتتمثل فى جلدهم ثمانين جلدة ، وهى عقوبة قريبة من عقوبة الزنا .
- معنوية : وتتمثل فى عدم قبول شهادتهم ، بأن تهدر أقوالهم ، ويصيرون فى المجتمع أشبه ما يكونون بالمنبوذين ، الذين إن قالوا لا يصدق الناس أقوالهم ، وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم ، لأنهم انسخلت عنهم صفة الثقة من الناس فيهم .
- دينية : وتتمثل فى وصف الله - تعالى - لهم بالفسق . أى : بالخروج عن طاعته - سبحانه - وعن آداب دينه وشريعته .
*وإستثني من ذلك (الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء:هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها , فيرفع عنه وصف الفسق , ويظل مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة . . فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته , وارتفع عنه حكم الفسق . وقال الإمام أبو حنيفة:إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة , فيرتفع الفسق بالتوبة , ويبقى مردود الشهادة . وقال الشعبي والضحاك:لا تقبل شهادته , وإن تاب , إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته .
ج - أن يقذف الرجل امرأته : حد الملاعنة
فقوله تعالي: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)) , وهو إتهام الرجل لإمرأته بالزنا .
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج , يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ; وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا , ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها , وطلقت منه طلقة بائنة , وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ; وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة , فإذا ما قالا ذلك . سقط عنهما الحد ، وفرق القاضى بينهما فراقا أبديا .
الدرس الثالث :
حادثة الإفك :
إتهام رجل من الصحابة وهو صفوان بن المعطل رضي الله عنه بالزنا بزوج الرسول عائشة , وإنتشرت هذه الشائعة وشغلت مسلمين المدينة شهرا من الزمان حتي برأ الله عائشة رضي الله عنها من هذه الكذبة بآيات من الفرآن الكريم ,
استنكار موقف بعض المسلمين من الإفك (أشنع الكذب وأفحشه) :
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) )
يورد الله عز وجل نموذجا من القذف , يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ; وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم , وعرض رسول الله [صلي الله عليه وسلم] أكرم إنسان على الله , وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [صلي الله عليه وسلم]وعرض رجل من الصحابة وهو صفوان بن المعطل رضي الله عنه بإتهامه بالزنا بزوج الرسول عائشة, وهذه الحادثة شغلت المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . و كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ; وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل.
*الذين جاءوا بالإفك :
أصل التدبير كان عي رأسه عبد الله بن أبي بن سلول, الحذر الماكر , الذي لم يظهر بشخصه في المعركة . ولم يقل علانية ما يؤخذ به , فيقاد إلى الحد . إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم , ولا يشهدون عليه . وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا , وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها ! ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش ; وحسان بن ثابت , ومسطح بن أثاثة وتم جلدهم علي ما خاضوا فيه بعد أن كشف الله كذبهم, وبشر الله عز وجل إبن أبي بن سلول بعذاب عظيم (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
معالجة بعض آثار حادث الإفك :
*ولقد أنّب الله المؤمنين في قوله : { ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وهكذا يؤدب الله - تعالى - عباده المؤمنين بالأدب السامى ، حيث يأمرهم فى مثل هذه الأحوال ، أن ينزهوا أسماعهم عن مجرد الاستماع إلى ما يسىء إلى المؤمنين ، وأن يتحرجوا من مجرد النطق بمثل حديث الإفك ، وأن يستنكروا ذلك على من يتلفظ به , ثم نهى - سبحانه - المؤمنين من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم فقال : { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } . ثم يواصل القرآن الكريم توجيهاته الحكيمة للمؤمنين ، فيهدد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا بالعذاب الأليم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20))
* إن الحدث لعظيم , وإن الخطأ لجسيم , وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء . ولكن فضل الله ورحمته , ورأفته ورعايته . . ذلك ما وقاهم السوء . . ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة ; وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين . فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكا أن يصيبهم جميعا , لولا فضل الله ورحمته
*صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان . وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم . وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير في قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)), وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه , وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقا غير طريقه المشؤوم ! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن , ويرتجف لها وجدانه , ويقشعر لها خياله ! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية .
ففي هذه الآية بيان للطريقة التي يتعامل بها الشيطان مع ضحاياه، فهو لا يهجم عليهم دفعة واحدة ليخرجهم من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، بل يتدرج للوصول إلى هدفه، وينظر نقاط الضعف في الشخص، ويحاول أن يلج من خلالها.
* وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض - كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب في قوله تعالي : (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22))
نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة . وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه . وهو قريبه . وهو من فقراء المهاجرين . وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه . فآلى- على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا . فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو ; وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟)حتى يرتفع على الآلام , ويرتفع على مشاعر الإنسان , ويرتفع على منطق البيئة . وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله . فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول:بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه , ويحلف:والله لا أنزعها منه أبدا . ذلك في مقابل ما حلف:والله لا أنفعه بنافعة أبدا .
الدرس الرابع :
وعيد من يقذفون المؤمنات الغافلات :
قوله تعالي : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) .
* ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها ; وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات , غير آخذات حذرهن من الرمية . وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا , لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه.
* جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة . ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة . لعنة الله لهم . وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة .
* ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم). . فإذا بعضهم يتهم بعضا بالحق , إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك ! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة , على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني .
*(يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق). . ويجزيهم جزاءهم العدل , ويؤدي لهم حسابهم الدقيق . ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون: (ويعلمون أن الله هو الحق المبين). .
الدرس الخامس :
الصالحات للصالحين وبراءة عائشة :
قوله تعالي : الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) .
*عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة , وحققه في واقع الناس . وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة , وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة . وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج . وما كان يمكن أن تكون عائشة - رضي الله عنها - كما رموها , وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض.
* أولئك الطيبون والطيبات (مبرأون مما يقولون)بفطرتهم وطبيعتهم , لا يلتبس بهم شيء مما قيل . (لهم مغفرة ورزق كريم). . مغفرة عما يقع منهم من أخطاء . ورزق كريم . دلالة على كرامتهم عند ربهم الكريم .
الدرس السادس :
وسائل الوقاية من الزنا:
في {الإستئذان في دخول البيوت وغض البصر بين المؤمنين والمؤمنات وحدود العورة عند النساء والحث علي التزويج وعدم البغاء }.
فلا يعتمد الإسلام على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف , إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية . وهو لا يحارب الدوافع الفطرية . ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة , فقد جعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها ; فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول , خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت , وعلى عورات أهلها وهم غافلون . . ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء , وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات , وتجنب الخلوة بامرأة أجنبية , و تجنب اختلاط الرجال بالنساء , و تجنب تعطر المرأة في الأماكن العامة , وتجنب خضوع المرأة في الكلام , وحفظ العورة وعدم النظر لعورات الآخرين , وتيسير الزواج للفقراء من الرجال والنساء . فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء , وينهى عن البغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة , فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء .
* الإستئذان للدخول في البيوت:
قال تعالي في سورة النور:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}.
* غض البصر بين المؤمنين والمؤمنات وحدود العورة عند النساء :
في قوله تعالي: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ 30النور}.
وقوله تعالي: { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النور 31 }.
* الحث على التزويج والإستعفاف والمنع من البغاء :
في قوله نعالي : {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) } .
قال صاحب الكشاف : " وما أحسن ما رتب هذه الأوامر : حيث أمر - أولا - بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر . ثم بالنكاح الذى يحصن به الدين ، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه " . ثم حض - سبحانه - على إعانة الأرقاء لكى يتخلصوا من رقهم ويصيروا أحرارا . فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } .
الدرس السابع:
طبيعة هذا القرآن :
بقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } . وقوله { مُّبَيِّنَاتٍ } , فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف الآيات التى أنزلها على عباده المؤمنين بثلاث صفات . وصفها - أولا - بأنها بينة فى ذاتها أو مبينة لغيرها ، ووصفها - ثانيا - بأنها مشتملة على الأمثال العجيبة لأحوال السابقين ، ووصفها - ثالثا - بأنها موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم دائما الخوف من الله تعالى.
الدرس الثامن :
نور الله وبيوت الله وتسبيح المخلوقات لله وخسارة أعمال الكفار :
في الدروس الماضية من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري . ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور . عالج عرامة اللحم والدم , وشهوة العين والفرج , ورغبة التجريح والتشهير , ودفعة الغضب والغيظ . وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة , وأن تشيع في القول . عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف . وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات . وعالجها بالوسائل الواقية:بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة , والنهي عن مثيرات الفتنة , وموقظات الشهوة . ثم بالإحصان , ومنع البغاء , وتحرير الرقيق . . كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم , ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق .
وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ , ومن اضطراب في المقاييس , وقلق في النفوس . فإذا نفس محمد - رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] - مطمئنة هادئة . وإذا نفس عائشة - رضي الله عنها - قريرة راضية . وإذا نفس أبي بكر - رضي الله عنه - سمحة صافية . وإذا نفس صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - قانعة بشهادة الله وتبرئته . وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة . وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه . فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته . .
بهذا التعليم . وهذا التهذيب . وهذا التوجيه . عالج الكيان البشري , حتى أشرق بالنور ; وتطلع إلى الأفق الوضيء ; واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض , وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق , وكله نور.
* نور الله: في قوله تعالي: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}.
* وبيوت الله في قوله تعالي: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) }.
* وصفات جنود الله في قوله تعالي: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) }.
وبذلك نرى الآيات قد طوفت بنا مع نور الله - عز وجل - ومثلت له بما من شأنه أن يجعل النفوس يشتد استمساكها بالحق الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، ومدحت مدحا عظيما أولئك الرجال الأخيار ، الذين يكثرون من طاعة الله - تعالى - فى بيوته التى أمر برفعها ، دون أن يشغلهم عن ذلك شاغل ، وبشرتهم بالعطاء الواسع الذى سيعطيهم الله إياه بفضله وكرمه .
* خسارة أعمال الكافر:
في مقابل النور المتجلي في السماوات والأرض , المتبلور في بيوت الله , المشرق في قلوب أهل الإيمان . . يعرض السياق مجالا آخر . مجالا مظلما لا نور فيه . مخيفا لا أمن فيه . ضائعا لا خير فيه . ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار.
في قوله تعالي: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }.
في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة , يلتمع التماعا كاذبا , فيتبعه صاحبه الظامئ, وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك . . وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة . فهذا السائر وراء السراب , الظامئ الذي يتوقع الشراب , الغافل عما ينتظره هناك . . يصل . فلا يجد ماء يرويه , إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال , المرعبة التي تقطع الأوصال , وتورث الخبال: (ووجد الله عنده)! الله الذي كفر به وجحده , وخاصمه وعاداه . وجده هنالك ينتظره ! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه , وهو ذاهل غافل على غير استعداد . فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار ?
وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب ; ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي . موج من فوقه موج . من فوقه سحاب . وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض , حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام !
إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون . وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى . ومخافة لا أمن فيها ولا قرار
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { .......وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }, فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها , وفي مخالفة لا أمن فيها , وفي ضلال لا رجعة منه . ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب ; لأنه لا عمل بغير عقيدة , ولا صلاح بغير إيمان . إن هدى الله هو الهدى . وإن نور الله هو النور .
الدرس التاسع :
تسبيح المخلوقات لله وملكية الله للوجود:
بعد مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس , يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح . مشهد يتمثل فيه الوجود كله , بمن فيه وما فيه , شاخصا يسبح لله:إنسه وجنه , أملاكه وأفلاكه , أحياؤه وجماده . . وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه , في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه:
في قوله تعالي : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) }. إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح ; فإن من حوله , وعن يمينه وعن شماله , ومن فوقه ومن تحته ; وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال . . إخوان له من خلق الله , لهم طبائع شتى , وصور شتى , وأشكال شتى . ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله , ويتوجهون إليه , ويسبحون بحمده: (والله عليم بما يفعلون). . فلا اتجاه إلا إليه , ولا ملجأ من دونه , ولا مفر من لقائه , ولا عاصم من عقابه , وإلى الله المصير .
الدرس العاشر :
مشهد المطر والسحاب:
في قوله تعالي : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)}. وهذا الذى حكاه القرآن من سوق الله للسحب ثم تجميعها ، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال ، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله ، الذى أحسن كل شىء خلقه . ثم ختم الله الآية الكريمة بقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار } ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض , على طريقة التناسق في التصوير.
الدرس الحادي عشر :
تقليب الليل والنهار:
في قوله تعالي : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}. دليل زمنى يحسه الناس ويشاهدونه فى حياتهم وهو آية " عظيمة " لأولى الأبصار " التى تبصر قدرة الله - تعالى - وتعتبر بها ، فتخلص له العبادة والطاعة.
الدرس الثاني عشر :
إعجاز الله في الكون وفي مخلوقاته:
في قوله تعالي : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) } . وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة , حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء , قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا , وهو الماء , وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع , وتفرعت الأجناس . .
الدرس الثالث عشر :
التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين:
بعد الحديث عن الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . والحديث عن الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم , وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض .
فصفات المنافقين:
* في قوله تعالي : (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)), الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون . فهم يظهرون الإسلام , و يقولون بألسنتهم فقط : آمنا بالله وبالرسول ، وأطعنا الله والرسول فى كل أمر أو نهى .
أنهم كاذبون فى دعواهم الإيمان والطاعة فقال : { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } , ولأنهم لو كانوا يؤمنون حقا . لما أعرضوا عن أحكام الله ، وعن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
*في قوله تعالي : (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) ويدعون الإيمان فيخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] على شريعة الله التي جاء بها , وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل . ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] وفي الرضى بحكمه , والطمأنينة إليه . فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله , راضين خاضعين , لأنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم , وفق شريعة الله , التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق .
*في قوله تعالي : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة ثلاثة تثبت مرض قلوبهم , وتتعجب من ريبتهم , وتستنكر تصرفهم الغريب : (أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ?). .
فالسؤال الأول : للإثبات (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ), فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الأثر . وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها , فلا تتذوق حقيقة الإيمان , ولا تسير على نهجه القويم .
والسؤال الثاني: للتعجب (أَمِ ارْتَابُوا), فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان ? هل هم يشكون في مجيئه من عند الله ? أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !
والسؤال الثالث : للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ), فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?
* ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم في قوله تعالي : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) , فالمؤمنون حقا لهم أدب غير هذا مع الله ورسوله . ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ; هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف . السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق لله , واهب الحياة , المتصرف فيها كيف يشاء ; ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم . فالله الذي خلق أعلم بمن خلق .
فجزاء المؤمنون :
*(هُمُ الْمُفْلِحُونَ) :المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بعلمه وعدله ; فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بشر مثلهم , قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا . . والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد , لا عوج فيه ولا التواء , مطمئنون إلى هذا المنهج , ماضون فيه لا يتخبطون , فلا تتوزع طاقاتهم , ولا يمزقهم الهوى كل ممزق , ولا تقودهم الشهوات والأهواء . والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم .
*و(هُمُ الْفَائِزُونَ) :الفائزون , الناجون في دنياهم وأخراهم . وعد الله ولن يخلف الله وعده . وهم للفوز أهل , ولديهم أسبابه من واقع حياتهم . فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة , وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة . وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج , وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه , فلا ينحرفون ولا يلتفتون .
* وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين , وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان , وما هم بمؤمنين , بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين: في قوله تعالي : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)) , لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها , مفروغ منها , لا تحتاج إلى حلف أو توكيد !, ويعقب على التهكم الساخر بقوله: (إن الله خبير بما تعملون). . فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد , وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون ! لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة . الطاعة الحقيقية . لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة ! (قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول). . (فإن تولوا)وتعرضوا , أو تنافقوا ولا تنفذوا (فإنما عليه ما حمل)من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وعليكم ما حملتم)وهو أن تطيعوا وتخلصوا . وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: (وإن تطيعوه تهتدوا)إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح . (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)فليس مسئولا عن إيمانكم , وليس مقصرا إذا أنتم توليتم . إنما أنتم المسئولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول
الدرس الرابع عشر :
وعد المؤمنين بالاستخلاف بالأرض و بتمكين الدين وانتصاره :
في قوله تعالي : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) ) ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ صلي الله عليه وسلم ] أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?
*إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله : حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] من عند الله . فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا)والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله . ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض , أمانة الاستخلاف, (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) الخارجون على شرط الله , ووعد الله , وعهد الله.
*إن حقيقة الإستخلاف : ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم , إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله . إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان , وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
*آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم). . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله
* ويعقب في قوله تعالي : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) , فهذه هي العدة . . الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: (لعلكم ترحمون)في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .
*وبعقب في قوله تعالي : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)) فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .
الدرس الخامس عشر :
آداب الإستئذان داخل البيوت: لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت . وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت .
في قوله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) .
*في تشريع هذا الأدب ودقة تنظيمه ما يدل على عظمة هذا الدين الذي اعتنى أشد العناية بخصوصية الفرد المسلم،ولنا أن نتخيل مجتمع خلا من هذا الأدب كيف تنتهك فيه الخصوصية الفردية ويُتكشف فيه على الأعراض،وأدب الاستئذان ليس مجرد أدب يلتزم به الفرد بل هو دين يتعبد الله به العبد المؤمن ويعلم أنه إن لم يتقيد به فإن عليه إثم ترك هذا الأدب،بل أن الإسلام يهدر عين من تلصص بالنظر إلى عورات أهل بيت وهم لا يعلمون أخرج البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ،وعند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ،بل وورد ماهو أصرح من ذلك عند الإمام أحمد وابن أبي عاصم والنسائي وصححه ابن حبان البيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ .
*أسباب نزول الآية : ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله تعالى: { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ . . . } روايات منها :
1- أن امرأة يقال لها أسماء بنت أبى مرثد ، دخل عليها غلام كبير لها ، فى وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
2- ومنها ما روى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث فى وقت الظهيرة غلاما من الأنصار يقال له مدلج ، إلى عمر بن الخطاب ، فدق الغلام الباب على عمر - وكان نائما - فاستيقظ ، وجلس فانكشف منه شىء فقال عمر : لوددت أن الله - تعالى - نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا من الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق عمر مع الغلام إلى النبى صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا لله - تعالى - .
* إن الإسلام منهاج حياة كامل ; فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها , وفي كل علاقاتها وارتباطاتها , وفي كل حركاتها وسكناتها . ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة , كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة ; وينسق بينها جميعا , ويتجه بها إلى الله في النهاية .
*بيان الأحكام في هذه الآية :
- يا من آمنتم بالله حق الإيمان من الرجال ، والنساء ، عليكم أن تمنعوا مواليكم وخدمكم وصبيانكم الذين لم يبلغوا سن البلوغ ، من الدخول عليكم فى مضاجعكم(حجرة نومكم) بغير إذن فى أوقات ثلاثة في اليوم والليلة، خشية أن يطلعوا منكم على ما لا يصح الاطلاع عليه .
- فالخدم, والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان . إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة , فهم يستأذنون فيها . هذه الأوقات هي:
1- الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أوأنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج.
2- ووقت الظهيرة عند القيلولة , حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة .
3- وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . .
*وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم , وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم , كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم . وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية , مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية , ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر . بينما يقرر النفسيون اليوم - بعد تقدم العلوم النفسية - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ; وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها .
*والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ; وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب , سليمة الصدور , مهذبة المشاعر , طاهرة القلوب , نظيفة التصورات .
*ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات . ولا يجعل استئذان الخدم و الصغار في كل حين منعا للحرج . فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة: (طوافون عليكم بعضكم على بعض). . وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات , وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار .
*وفى غير هذه الأوقات فلا حرج علي الصغار والخدم أن يدخلوا بدون استئذان لأنهم تكثر حاجتهم فى التردد عليكم ، وأنتم كذلك لا غنى لكم عنهم فأنتم وهم يطوف بعضكم على بعض لقضاء المصالح فى كثير من الأوقات .
وبذلك يجمع الإسلام فى تعاليمه بين التستر والاحتشام والتأدب بآدابه القويمة ، وبين السماحة وإزالة الحرج والمشقة .
و حين يدرك الصغار سن البلوغ , فإنهم يدخلون في حكم الأجانب , الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت , حسب النص العام , الذي مضت به آية الاستئذان .
*والمولي جل وعلا يعقب على الآية بقوله: (والله عليم حكيم)لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر , وما يصلحها من الآداب ; ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب .
الدرس السادس عشر:
الرخصة للقواعد من النساء:
ولقد سبق كذلك الأمر من الله بإخفاء زينة النساء منعا لإثارة الفتن والشهوات . فعاد هنا يستثني من النساء القواعد في قوله تعالي: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)), والنساء العجائز اللاتى قعدن عن الولد أو عن الحيض , أو لكبر سنهم، ولا يطمعن فى الزواج لكبرهن ، فليس على هؤلاء النساء حرج أن ينزعن عنهن ثيابهن الظاهرة ، والتي لا يفضى نزعها إلى كشف عورة ، أو إظهار زينة أمر الله تعالى بسترها . وقالوا : سميت المرأة العجوز بذلك ، لأنها تكثر القعود لكبر سنها .
* فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية , على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة . وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة . وسمي هذا استعفافا . أي طلبا للعفة وإيثارا لها , لما بين التبرج والفتنة من صلة ; وبين التحجب والعفة من صلة . . وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية , والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس .
*وختمت الآية قسابقتها بقوله تعالي (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ويعلم , ويطلع على ما يقوله اللسان , وما يوسوس في الجنان . والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير .
الدرس السابع عشر :
تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء:
في قوله تعالي : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61)) .
* ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما عن ابن عباس أنه قال : لما أنزل الله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل . . } تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والعمى والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال والباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة ، والمريض يضعف عن التناول ولا يستوفى من الطعام حقه ، فأنزل الله هذه الآية
, لترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج , وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس " .
* ولآن الآية آية تشريع , فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي , والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول (من بيوتكم)فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج , فبيت الابن بيت لأبيه , وبيت الزوج بيت لزوجته , وتليها بيوت الآباء , فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة , فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام , فبيوت العمات , فبيوت الأخوال , فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
*فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها , بين الحالة التي يجوز عليها الأكل: (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا)فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف , ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد , وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .
* وإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة). . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح , وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها
* وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون). . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير .
الدرس الثامن عشر :
تنظيم العلاقات بين المسلمين والآداب في مجلس الرسول :
في قوله تعالي : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)) .
* وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء , إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة . . أسرة المسلمين . . ورئيسها وقائدها محمد رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول.
* روى ابن إسحاق فى سبب نزول هذه الآيات ما ملخصه : أنه لما كان تجمع قريش وغطفان فى غزوة الأحزاب ، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم خندقا حول المدينة وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودأبوا ، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فى عملهم ذلك ، رجال من المنافقين ، وجعلوا يُوَرُّون - أى يستترون - بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن . وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التى لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه فى اللحوق لحاجته ، فيأذن له ، فإذا قضى حاجته ، رجع إلى ما كان فيه من العمل رغبة فى الخير واحتسابا له . فأنزل الله هذه الآيات فى المؤمنين وفى المنافقين .
*و تتضمن هذه الآيات ,الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها . هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها . ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا . وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها: ) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله), لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم ; ولا يطيعون الله ورسوله .
* والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه , لرأى أو حرب أو عمل من الأعمال العامة . فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم . كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام .
وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان , ويلتزمون هذا الأدب , لا يستأذنون إلا وهم مضطرون ; فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة , ويستدعي تجمعها له . . *والقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول صلي الله عليه وسلم رئيس الجماعة . بعد أن يبيح له حرية الإذن: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم). . [ وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقال:(عفا الله عنك ! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)] . . يدع له الرأي فإن شاء أذن , وإن شاء لم يأذن , فيرفع الحرج عن عدم الإذن .
*وقد تكون هناك ضرورة ملحة . ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف . ويترك له الكلمة الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه, ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة , وعدم الانصراف هو الأولى ; وأن الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي [صلي الله عليه وسلم] للمعتذرين: (واستغفر لهم الله . إن الله غفور رحيم). . وبذلك يقيد ضمير المؤمن . فلا يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان .
* ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [صلي الله عليه وسلم] عند الاستئذان , وفي كل الأحوال . فلا يدعى باسمه:يا محمد . أو كنيته:يا أبا القاسم . كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا . إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه:يا نبي الله . يا رسول الله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا), فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله [صلي الله عليه وسلم] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه . وهي لفتة ضرورية . فلا بد للمربي من وقار , ولا بد للقائد من هيبة .
* ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن , يلوذ بعضهم ببعض , ويتدارى بعضهم ببعض , فعين الله عليهم , وإن كانت عين الرسول لا تراهم: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا),وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ; ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة , وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس .
*ويحذر كل الذين يخالفون عن أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وإنه لتحذير مرهوب , وتهديد رعيب . . فليحذر الذين يخالفون عن أمره , ويتبعون نهجا غير نهجه , ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة . ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس , وتختل فيها الموازين , وينتكث فيها النظام , فيختلط الحق بالباطل , والطيب بالخبيث , وتفسد أمور الجماعة وحياتها ; فلا يأمن على نفسه أحد , ولا يقف عند حده أحد , ولا يتميز فيها خير من شر . . وهي فترة شقاء للجميع: (أو يصيبهم عذاب أليم)في الدنيا أو في الآخرة . جزاء المخالفة عن أمر الله , ونهجه الذي ارتضاه للحياة . ويختم هذا التحذير , ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها , رقيب على عملها , عالم بما تنطوي عليه وتخفيه .


الدرس التاسع عشر :

ختام السورة :
بقوله تعالي : (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)) .
وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله ; وتذكيرها بخشيته وتقواه . فهذا هو الضمان الأخير . وهذا هو الحارس لتلك الأوامر والنواهي , وهذه الأخلاق والآداب , التي فرضها الله في هذه السورة وجعلها كلها سواء . .

المراجع:
1- تفسير إبن كثير.
2- تفسير القرطبي .
3- تفسير الظلال لسيد قطب.
4- التفسير الميسّر مجمع الملك فهد.
5- تفسير الوسيط لسيد طنطاوي.
6- تفسير الجلالين (المحلَّى و السيوطي ) .


ماقتلته هو مات فيني 4 - 3 - 2012 03:12 AM

رد: نظرات في سورة النور
 
تسلم الايادي على نقلها أسأل الله أن يحرمها وجسدك على النار جزاء مانقلت يداك
انه القادر سبحانه .....

تقبل مروري ... ماقتلته هو مات فيني

بياع الورد 4 - 3 - 2012 08:41 AM

رد: نظرات في سورة النور
 
تسلم اخى على هذا الشرح الوافى والنقل المميز ربى يبارك فيك ويجزاك الجنه


الساعة الآن 05:03 PM.

Privacy-Policy Copyright
Powered by vBulletin® Version
Copyright ©2000 - 2024 , vBulletin Solutions, Inc
Search Engine Friendly URLs by
vBSEO 3.6.1

المواضيع المكتوبة في منتديات خجلي لاتعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وإنما تعبر عن وجهة نظر كاتبها

Security team